د. الخضر هارون
مذكرات الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد كتاب فريد لرجل متفرد فهو متلزم ومستقل في ذات الوقت. ملتزم بالخط العام للحركة الإسلامية بل هو أحد رموزها وقادتها منذ شبابه الباكر لكنه اختار الاستقلال برأيه فيما رأي أن الإجماع لم ينعقد عليه أو ما رأي أن مجاراته له لا تعفيه من تبعاته علي قاعدة معتقداته في النصفة والسداد ومكارم الأخلاق من زواياها الدينية والدنيوية.
وقد تيسر لي قراءة جل مذكرات السودانيين واسترعي انتباهي بعضاً منها دون بعض أذكر نماذجا منها علي سيبل المثال لا الحصر كمذكرات الأستاذ القطب الاتحادي خضر حمد و ومذكرات الأستاذ أحمد خير المحامي في كتابه (كفاح جيل ) وهذه المذكرات للأستاذ أحمد عبدالرحمن لما اشتملت عليه من الشمول الذي لم يغفل التطور الاجتماعي والسياسي في سياق التاريخ الذي شملته الذكريات ولم يجعل من المذكرات مجرد سيرة ذاتية للمؤلف تتحدث عن إنجازاته وحده بل تأتي في ملابساتها التاريخية والاجتماعية مما يمكن القارئ من التمييز بين الموضوعي والذاتي فيها وما يغربل التاريخ ويضيف إليه .وميزة أخري هي أنها خلت من التجريح وإطلاق التهم علي المخالفين في الرأي بل جري إنصافهم وفي حالات كثيرة التماس الأعذار لهم. ويحمد للأستاذ أحمد ولعدد من السياسيين من التيارات الأخري من جيله سعيهم الدؤوب للتراضي الوطني علي القضايا الوطنية الجوهرية والسمو بها فوق الاختلافات السياسية.
جلست إليه علي مدي ساعتين في مقر إقامته في القاهرة في احدي ليالي أغسطس من هذا العام 2024 للميلاد في أنس جميل سرد خلاله بدقة محتويات هذا السفر النفيس الذي خطه يراعه والتمس مني مراجعته ثم التقديم له. ذلك الأنس المفيد ذكرني بجلسات لنا مع المرحوم احمد سليمان المحامي في طريقة السرد والاستطراد والدقة التي تكاد تلامس ساعات ودقائق ضابطات الوقت. وكان المرحوم أحمد سليمان علي ما فيه من حدة وقطعيات في بعض الأمور ,قد أصبح عندما التقيناه شاهداً علي التاريخ لا يروم مما يقول منصباً ولا جاها وقد خبر كل ذلك وذاقه في عمره المديد فأصبح تحري الحقيقة والتماس الإنصاف غاية يتوخاها وكذلك لمست في الأستاذ أحمد عبد الرحمن ذلك. وقد أحسن الأستاذ إسماعيل عتباني مؤسس يومية “الرأي العام” وأحد مؤسسي مؤتمر الخريجيين وصف مذكراته المفيدة بأنها مذكرات مودع.
الأستاذ أحمد من مواليد العام 1933 في مدينة بربر بولاية نهر النيل ولعلها من أوائل البلدات التي غشيتها المدنية الحديثة والتعليم النظامي الحديث ويمكن ان يطلق عليها مصطلح (كوزموبوليتان) أي المدينة متعددة الأعراق حيث ضمت أعراقا ومهاجرين من مصر وتركيا والمغرب وحتي الصين تصاهروا وكونوا نسيجاً واحدا عرف باكرا التعايش السلمي بين مكوناته. والده السيد عبدالرحمن محمد أحمد حسب الله غندور من فرع الغنادير في قبيلة العبابدة وهي قبيلة مشتركة بين السودان وصعيد مصر وعرفت الأسرة في بربر بجدته فكان يقال ( ود العبادية) وهي جدته لأبيه جاءت من قرية ( منيحة) قرب كوم أمبو في صعيد مصر. وقد حافظ الطرفان المصري والسوداني علي هذه العلاقة بالتزاور الدائم.
أما جده لأمه أي والد خاله الدكتور الصايم حاج موسي هو الشيخ محمد إبراهيم موسي من ركابية قرية موره في محلية مروي ، وهي أسرة معروفة تعرف (بالحاجموساب) ومنهم الأستاذ سيد احمد الحسين وزير الداخلية الأسبق والشيخ حاج ما جد حاج موسي وكيل وزارة الشؤون الدينية الأسبق. ولما كان والده كثير التنقل بحكم عمله في سكك حديد السودان لازم الأستاذ أحمد خاله الدكتور الصايم بغرض الاستقرار الدراسي ومع ذلك تنقل بين بربر وودمدني وأم درمان حيث تلقي تعليمه قبل المدرسي في احدي خلاوي بربر العديدة ثم الابتدائي في مدرسة البندر في ود مدني والأوسط والثانوي في أم درمان وأكمل تعليمه في جامعة الخرطوم ونال الماجستير في الادارة في هولندا .
تزوج من عائلة الحاج محمد علي من الدويم ورزق بنتا هي الدكتورة الوزيرة عفاف وثلاثة أبناء هم البنا والمهندسان ياسر وإبراهيم.
التحق الأستاذ أحمد بالحركة الإسلامية في عام 1949 عندما كان طالبا بمدرسة أمدرمان الأهلية الثانوية والتي ذكر انها كانت قرب مساكن السادة اسماعيل الأزهري والأميرالاي عبدالله بك خليل وعبدالخالق محجوب في بيت المال وكان ناظرها محمد عبدالقادر ( والد زين العابدين عضو مجلس قيادة ثورة مايو) ومن أساتذتها الأستاذ محمد حمزة الذي اصبح مديرا لها لاحقا والشاعر كرف. وقال أنها كانت تعج بالحراك السياسي الذي يقوده اليسار. ويذكر من نشطاء الحزب الشيوعي من الطلاب فيها معاوية سورج والشاعر صديق مدثر.
قال إنه كان مبعوثا لخاله دكتور الصايم الذي كان قد سافر لمصر لأكمال تعليمه هناك وكان مناضلا شرسا ضد اليسار وكان يرسله للإسلاميين في السودان لتقوية شوكتهم وكان سببا لقيام تنظيم الاخوان المسلمين عبر اثنين من تلاميذه ، بابكر كرار النور ومحمد يوسف محمد. ورغم ذلك لم ينتسب هو للجماعة بل أسس حركة التحرير الإسلامي وأسند الأمانة العامة فيها لقريبه وقريبنا من جهة أخري المرحوم عبداللطيف أحمد عبدالمجيد حيث رفض الأستاذ أحمد تولي ذلك المنصب لأنه كان عضوا فاعلا في جماعة الاخوان المسلمين.
ومن طرائف ما ذكر أنه قرر الإلتحاق بالأحفاد لاكمال دراسته حيث أدي النشاط الطلابي لاغلاق الأهلية. وعندما التقي مديرها يوسف بدري سأله أين تدرس الآن فلما ذكر له الأهلية رفض قبوله قائلاً ( بشطارتك دي قفلت الأهلية جاي تقفل الأحفاد؟!).
ذكر طرفا من نشاطات الإسلاميين المبكرة لمواجهة المد الشيوعي في بربر وفي كسلا التي عمل فيها ضابطا إداريا وقد أعانه قريبه مزمل غندورعلي قائد حامية في كسلا أراد التصريح لقيام بار لبيع الخمور في احد أنديتها.
التحق بكلية الخرطوم الجامعية في (1954 – 1958) وقد زامل في كلية الآداب طيفا من المشاهير فيما بعد : صلاح أحمد إبراهيم، محمد هاشم عوض ، محمد سعيد القدال والطيب السلاوي والسفير علي ياسين قيلي.
وفي إشارة لروحه التوافقية ما ذكره من أن فكرة التمثيل النسبي في انتخابات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم جاءت من الدكتور سعد الدين فوزي عميد كلية العلوم السياسية. قال ذهبت أليه ( مع صديقي الزعيم الطلابي قريب الله الأنصاري وهو من أميز قيادات الطلاب اليساريين في الجامعة. قال لنا إنكم تتحملون المسؤولية إذ كيف تتحكمون في مصير غالبية الطلاب وأنتم سواء كنتم من اليمين أو اليسار لا تمثلون أكثر من ١٠٪ من الطلاب. فحرام عليكم أن تعطلوا تطلعات وأشواق من يرغبون بالعمل والتعليم والتخصص وتفسدون المناخ باستدامة الصراعات، فأشفقوا علي السودان!) قال طرحنا الأمر علي الطلاب من اليمين واليسار. ذكر منهم دفع الله الحاج يوسف ومحمد هاشم عوض وابراهيم أحمد الحاردلو وعمر مصطفي مكي وسعاد إبراهيم أحمد وعمر محمد سعيد وعلي ياسين قبلي. وفعلا بدأ العمل بنظام التمثيل النسبي منذ العام 1957 وقد ساهم ذلك في استقرار الوسط الجامعي لأكثر من عقد . قال 🙁 وقد حزنت كثيرا لانتهاء العمل بالتمثيل النسبي في ظل قيادة الإسلاميين نتيجة لاستقواء اليسار الطلابي بالنظام المايوي حيث بارك اليسار انتهاك حرمة الجامعة بتشجيع ضباط مايو بدخول الدبابات تحت ترحيبهم وهتافهم ( حاسم ، حاسم، يا أبو القاسم.)!.