تقدم”: معارضة الإنقاذ “دور تاني”
عبد الله علي إبراهيم
بدت كلمة حمدوك في عنتيبي عن نزع الشرعية عن حكومة بورتسودان “الكيزانية” شاهداً آخر على أن “تقدم” لم تفرغ بعد من معارضة الإنقاذ، مع قولها إنها “نظام مباد” ورئيسه “مخلوع”.
قال رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية والتقدمية “تقدم” عبدالله حمدوك في عنتيبي بدولة أوغندا في الثالث من ديسمبر (كانون الأول) الجاري إن اجتماعات الهيئة القيادية لمنظمته ستتناول نزع الشرعية عن الحكومة السودانية، التي تدير عملها من مدينة بورتسودان “حكومة بورتسودان”، لأنها ربما، كما سبق له القول، تأتمر بأمر الإسلاميين. وتقترح أطراف في “تقدم” إقامة حكومة منفى بدلاً منها وهو ما لا يجد قبولاً من أكثرهم.
ولا يملك المرء أن يسأل هنا إن كانت “تقدم” هي جبهة لمعارضة الحكومة القائمة، أم إنها اختصت بوقف الحرب بين طرفيها، وهما الحكومة وقواتها المسلحة، بدفعهما للتفاوض. ولا يعرف المرء أيضاً إن كان نزع الشرعية عن القوات المسلحة والتي تأتمر بأمر الإسلاميين في عقيدة “تقدم”، هو الخطوة القادمة لأنها لم تعد في نظر “تقدم” سوى ميليشيات خالصة للمؤتمر الوطني أيضاً.
كما لا يعرف المرء جريرة هذه الحكومة تحديداً التي دعت “تقدم” لطلب إزالتها؟ وما لقيت “تقدم” منها من عراقيل خلال شغلها في إنهاء الحرب مما استدعى نزع الشرعية عنها؟ وهل سيتنزل محوها من ظهر بسيطة السودان برداً وسلاماً عليه؟
يخشى المرء أن تكون “تقدم” جاءت لحل حكومة بورتسودان “بعادة المعارضة” التي اكتسبتها منظماتها خلال نضالها الطويل ضد الأنظمة الديكتاتورية في السودان. وهذه العادة هي محض غيظ لا يلطفه فكر استراتيجي يفرق بين الحكومة والدولة ولا الوطن. وإذا كان ثمة ما يذكر لحمدوك خلال رئاسته للوزارة الانتقالية أنه فكك بعد جهد جهيد النظام الفادح من العقوبات الدولية على السودان، التي ألجمت بها المعارضة حكومة الإنقاذ. فدفع السودان 335 مليون دولار عام 2021 مثلاً تعويضاً لضحايا السفارات الأميركية في كينيا وأوغندا والمدمرة كول التي اتهم بها ليزيل اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. فكان حمدوك ورث دولة موبوءة بالمقاطعة تناصرت حكومة الإنقاذ ومعارضتها معاً في صنعها.
وعادة المعارضة هي كل ما في جعبة “تقدم” في خطاب الدولة والجيش الدائر من حول الحرب الناشبة. فتجيء “تقدم” إلى محاكمة الدولة، لا بما اصطلح العلم في تعريفها بل بالاحتجاج عليها لأنها لم تكن الدولة الديمقراطية المدنية السعيدة التي أرادوها لوطنهم. فقالت الصحافية رشا عوض بخطأ الوقوف في يومنا مع هذه الدولة التي كانت قواتها المسلحة “أداة لوأد الديمقراطية لأكثر من نصف قرن”. فلا تكون الدولة الحديثة في رأيها إلا بالديمقراطية.
وربط رشا للحداثة بالديمقراطية خطأ بيِّن. فالديمقراطية ليست سوى واحدة من ضروب التعاقد السياسي في الدولة الحديثة. فتكون الدولة الحديثة على حداثتها كيفما تعاقد الناس فيها، وبمثل هذه المحاكمة للدولة جعلت “تقدم” للدولة غاية، كأن تجسد برامجهم السياسة للحكم المدني الديمقراطي التي قاوموا دولة الإنقاذ من أجلها وأسقطوها. وكان بلغ بأهل “تقدم” التأذي من دولة الإنقاذ حداً طلبوا به ليومنا حل الدولة وتسريح الجيش كما رأينا من حديث حمدوك. وغائية الدولة، مثل أن يكون الهدف منها العدل بين الناس في الدولة الدينية أو الاشتراكية، مما لم يعد الشاغل في علم اجتماعها كما كان الحال قبلاً. وجاء العالم الألماني ماكس فيبر بهذه القطيعة مع غائية الدولة. فعرف الدولة بأنها التي لها حصرياً احتكار استخدام القوة على أبدان أهلها.
وأراد فيبر بهذا أن ينأى كعالم اجتماع من الخوض في حكم القيمة على موضوع دراسته، أي الدولة. فحقها في احتكار السلاح من حقائقها وكفى. وليس من وظيفة العلم أن يقرر في أخلاقية هذه الشرعة للدولة. وما تبقى للعلم هو أن يدرس الوسائل التي تستخدمها الدولة التي لها دون سواها توظيف القوة على من هم تحتها، أو ما يطلق عليه فيبر “أشراط السيطرة”. وبعبارة، تخلص فيبر من حمولة تعريف الدولة بالغاية الأخلاقية منها التي رأيناها تستولي على العقول في “تقدم”. وكان الأهدى أن يدرسوا “أشراط السيطرة” هذه في دولة الإنقاذ مثل بيوت الأشباح وغيرها لتعزيز الوعي ببرنامجهم للتقدم والديمقراطية، وتثقيف التغيير ليقع بدماثة ومتانة وفطانة لا في مثل الهرج الذي اكتنف دولة ثورة 2019 وطوى صفحتها بصورة معجلة.
غير أن بعضهم في “تقدم” جاء بفهم للدولة في تعريفها كالهيئة التي لها الحق الحصري في احتكار السلاح، ولكنه ما لبث أن ارتد عنه إلى مدخره من ثقافة مقاومتها. فقال خالد عمر يوسف القيادي في “تقدم” بعد الثورة وقبل الحرب إن قوات “الدعم السريع” تهدد وجود الدولة ولا بد من الخلاص منها بدمجها في القوات المسلحة، لأنه “لا يمكن أن نسمح بتعدد الجيوش”. وسمى هذا الدمج بـ”أولوية” لأنه بغير توحيد الجيش فمستقبل السودان وتحوله إلى الديمقراطية في مهب الخطر، وعزز حجته بقوله إنه بالوسع إعفاء ضباط القوات المسلحة الأعضاء بمجلس السيادة وردهم إلى بيوتهم، ولكن من أين لنا إعفاء محمد حمدان دقلو وأخيه عبدالرحيم، أي ما سلطاننا على جيش سلالي في مصطلح أهل اليمن، ولكنه نصح مع ذلك بالتروي في محو “الدعم السريع” من خريطة العسكرية السودانية لأنه صار فينا غزير العدد، قوي العتاد، واسع النفوذ العالمي.
ولكن ما اندلعت الحرب حتى تخرط خالد من عادة الثقافة إلى عادة المعارضة. فاحتج على من يقول من الإسلاميين إن “الدعم السريع” ليس من الدولة. فقال إنهم مع ذلك من جاؤوا به من رحمهم، ورعرعوه في أكنافهم بجعله جيشاً في حد ذاته بقانون مجاز من البرلمان في دولة الإنقاذ عام 2017. بل وظل ضباط “الدعم السريع” وجنوده، في قوله، يصرفون رواتبهم من خزانة الدولة حتى بعيد الحرب. ولم يتفق لخالد الشرعية التي يضفيها غيره للجيش والدولة في يومنا، فقد انتفت هذه الشرعية عن الجيش و”الدعم السريع” منذ انقلابهما على الوثيقة الدستورية (2019) والحكومة الانتقالية خلال الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021. وهكذا نزع خالد الشرعية عن الدولة و”الدعم السريع” معاً في غمرة احتجاجه على إطاحة دولتهم التي رهنوا التحول الديمقراطي بها. وهذه ردة إلى عادة المقاومة.
وعلى ما يبدو من أن “تقدم” غبين على الدولة وجيشها منذ تأسيسهما إلا أنها مصابة بما تسميه الأعاجم بـ”المنطقة العمياء”، فهم مضربون عن النزول عند حقيقة أن الذي سبق إلى أدلجة الدولة والجيش معاً في واقع الأمر هو الرئيس جعفر نميري (1969-1985). فتجد الأكاديمي النور حمد يؤرخ لأدلجتهما بدولة الإنقاذ عام 1989. فتحول الجيش منذ ذلك التاريخ، في قوله، إلى “مجرد ميليشيات لحراسة حكم الإسلاميين الأيديولوجي الإقصائي”.
ومعلوم أن دولة نميري تبنت الاشتراكية حرفاً ونصاً بحزبها الواحد “الاتحاد الاشتراكي” الذي له الولاية على النقابات والصحافة، ويقسم الجيش فيها على الدفاع عن الدولة الاشتراكية. بل ويجلس قادته برتبهم من أعلى إلى أسفل أعضاء لائحيين في مكتب الاتحاد الاشتراكي السياسي واللجنة المركزية. بل وأبعد سلف “تقدم” في دولة نميري النجعة في أدلجة الدولة، فرهنوا تحديث الدولة بالجيش كطليعة في مقام “البروليتاريا” عند الماركسيين.
وأبلغ من عبر عن هذه العقيدة في دور الجيش في بلد نام هو منصور خالد في محاضرة ألقاها بأميركا عام 1967، فلم يقبل فيها بالتقليد الغربي الذي يعتزل فيه الجيش السياسة. وقال إنه لا يصلح لمثلنا، فجيوش العالم الثالث في قوله، معززة بعناصر تجعلها العليا بالنسبة إلى المؤسسات الاجتماعية. فهي منظمة وتتحلى بالضبط والربط ومتحدة، وهي حديثة بما تحمل من سلاح وما خضعت له من مهنية، وهي الميزات التي يعول عليها حين تنشأ الحاجة لتغيير جذري للنظام القديم في مجتمع متصف بالشقاق السياسي الغائر وبالنزاعات القبلية والطائفية وبجمهرة محافظة، علاوة على أن قيادة الجيش من الضباط هي بعض صفوة الأمة. وزاد قائلاً إن الجيش ليس منشأة معزولة نتداول فيها بغير اعتبار لأصلها الاجتماعي وتقاليد المجتمع الذي نشأت منه والحقائق السياسية التي تجبهها. فكل محاولة لعزل الضباط من الانغماس في السياسة (إذا لم يكن عملياً فعلى مستوى التأمل والتفكير) مصطنعة.
ولا يأتي ذكر هذا التاريخ للجيش “الاشتراكي” في سيرة أدلجة الجيش عند “تقدم”، فهي عندهم ابتداع من دولة الإسلاميين حصرياً. وإسقاط “تقدم” التي كانت قواها ليومنا من أعمدة نظام نميري (وإن غادره بعضهم كل في توقيته الخاص وتبقى بعض)، من “عادة المعارضة” التي تغفر لنفسها ما تقدم من ذنب أدلجة الجيش والدولة وما تأخر، ولكنها مع خصمها شديدة الحساب.
وتأخذ عادة المعارضة بخناق “تقدم” حتى حين تحين منها التفاتة مستقلة لطبيعة الدولة، فتجدها لا تحسن الخوض فيها وتتحول بها إلى هجاء للدولة والمزايدة فيه. فتجد مثلاً من يرد عاهة الدولة السودانية إلى أنها “كولونيالية” (استعمارية) حتى قال عنها هشام عمر النور، الأكاديمي، إنها حتى ولا وطنية، وأكثر مؤسساتها كولونيالية في نظره هو الجيش نفسه الذي نشأ، في رأيه، حتى قبل الدولة (الحديثة) على يد محمد علي باشا بعد احتلاله السودان عام 1821.
وأخذ على هذا الجيش من ناحية استعماريته مشاركته في قمع حركة وطنية مكسيكية تحررية عام 1863 واستدعاه إلى المهمة نابليون الثالث إمبراطور فرنسا في سياق مشروعه التوسعي في أميركا اللاتينية، ولكن لهشام رأي آخر في تاريخ تأسيس الجيش في السودان. فقال إنه لم يتكون إلا عام 1925 بعد ثورة عام 1924 التي أمر الإنجليز فيها الجيش المصري بمغادرة السودان لاتهامه بالضلوع في ثورة السودان الوطنية عام 1924. ولما لم يعرض هشام بسبب الانقطاع بين هذين التاريخين لتأسيس الجيش صح القول إنه ربما كنا نتحدث عن مؤسستين في تاريخ العسكرية السودانية لا جيشنا الحالي الذي تأسس عام 1925 كما قال. وبدا لي أن هشام إنما قصد من هذين التاريخين لتأسيس الجيش السوداني القول بصدور عنف جيشنا، الذي وقع منه خلال دولة الإنقاذ الإسلامية من عرق دساس قديم. فالعنف في جيناته التاريخية.
ولا تتفق الصحافية رشا عوض في ذلك مع هشام عن كولونيالية دولة السودان والجيش، فأخذت في مقال سبق الحرب بعنوان “يوميات البرقع الأحمر” على مواثيق لجان المقاومة وصفها الدولة بأنها دولة ما بعد الاستعمار. ومن رأيها فيه أن الاستعمار نفسه براء من دولة الإنقاذ لفرط سوئها. وصرفت هذا التشخيص بالاستعمارية أو ما بعدها بأنه أسطوانة مشروخة. فدولة الإنقاذ، في قولها، دولة مسخ في حاجة إلى مصطلح جديد لفهمها، فهي التي انقضت على دولة الاستعمار وفككتها “صامولة صامولة” (شاعت العبارة من على فم وجدي صالح عضو لجنة تفكيك دولة الإنقاذ) فلم تبق منها هياكلها المادية مثل السكة الحديد ومشروع الجزيرة والخدمة المهنية. وجرى تعريب جامعاتها في إطار حملة تأصيل البلد، ولم يتبق فيها نظام برلماني ولا دستور ولا قوانين مدنية تشبه الدولة الوطنية الحديثة بامتيازاتها مثل مجانية التعليم والعلاج (وبالطبع لم يكن في دولة الاستعمار لا دستور ولا نظام برلمانياً). فحتى مساحة دولة الإنقاذ، في قول رشا، تقلصت بانفصال جنوب السودان للثلثين، وخلصت إلى أن دولتنا صارت كيزانية بامتياز، انتكست حتى من دولة الاستعمار وما بعده.
وتأخذ “تقدم” على دولة الإنقاذ استيلادها للميليشيات القبلية لغاياتها الأمنية التي انتهت بنا إلى مثل “الدعم السريع”، فالحرب. وهو ما لم تحتج له الحكومات قبلها على رغم ممارستها لعنف وصفه هشام عمر النور بغير المفرط في دولة الفريق إبراهيم عبود (1958-1964) ليتصاعد بحكومة الرئيس جعفر نميري (1969-1985)، وليبلغ ذروته مع دولة الإنقاذ متمثلاً في إنشاء الميليشيات من القبائل.
وبدا هشام كمن قصر استخدام الميليشيات على دولة الإنقاذ دون سابقاتها في حين نعى، من الجهة الأخرى، على الجيش نكوصه طوال تاريخه دون القيام بدوره الوطني مثل احتكار السلاح والعنف. وفي الواقع، وخلافاً لقول هشام، لم تأت الإنقاذ باصطناع الميليشيات في ما يعرف بـ”قمع التمرد بأرخص ثمن”، مع أن ما قامت به حقاً وبالأصالة أضل وأفدح فحولت الميليشيات، “الدعم السريع”، إلى جيش ثان مبطلة بذلك احتكار السلاح للقوات المسلحة. فاصطناع الميليشيات لتقاتل خصوم الدولة المركزية عادة متبعة في دولة مترامية الأطراف كالسودان لا يطول المركز أصقاعها. ومتى حللت “ارتزاق” هذه الميليشيات وجدتها عن مظلومية من سياسات محلية وجدت في المركز نصيراً لها عليه. بخلاف من يظن الميليشيات مجرد “مخلب قط” للنظام الذي أنشأها، أي مرتزقة. فلم يسلم لا نظام عبود ولا نميري من تفويج الميليشيات لقمع من نهضوا في وجهيهما. فاستخدم نظام عبود شعب المورلي ليقاتل دونه الحركات الجنوبية القومية المسلحة الباكرة كمثل أنانيا، واستخدم نظام نميري أنانيا 2 التي قوامها شعب النوير الجنوبي التي انهزمت في صراع قصير الأجل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983. فتفرق منسوبوها ليتجند بعضهم في ميليشيات تقاتل الجيش الشعبي لمصلحة الحكومة، وكانت لها رئاسة في الخرطوم. وورث نظام الإنقاذ كتلة منها كان على رأسها الجنرال فاولينو ماتيب ممن كانت حماية آبار النفط في الجنوب ضمن مسؤولياته.
وبدت كلمة حمدوك في عنتيبي عن نزع الشرعية عن حكومة بورتسودان الكيزانية شاهداً آخر على أن “تقدم” لم تفرغ بعد من معارضة الإنقاذ مع قولها إنها “نظام مباد” ورئيسه “مخلوع”. فعادة المعارضة لا تزال، بعد ثورة ودولة انتقالية وحرب ضروس، ناشبة بفكرها وممارستها. ولا يعرف المرء متى ستفرغ من هذا الدور الثاني، ولكن عليها قبل هذا أن تعيد النظر في الازدواجية التي تطبع مواقفها، هل هي وقف الحرب باعتراف بشخصية أطرافها الاعتبارية، أم معارضة الإنقاذ… تاني.