التجاني عبد القادر حامد
12 أبريل، 2020
نستطيع أن نلاحظ بيسر أن هناك تطابقاً بين نموذج كرين برينتن الذي أشرنا إليه في الحلقة (1) وبين الحالة السودانية فيما يتعلق بالمرحلة الأولى، حيث تساقط نظام الإنقاذ لأسباب تكاد تكون مماثلة لما ذُكر في النموذج؛ من ضائقة اقتصادية خانقة، ومن عجز بيروقراطي وفساد في إدارة الدولة، ومن حاكم غير كفؤ، ومن تخل للمثقفين الذين يمثلون ضمير الأمة عن الحزب الحاكم. أما العوامل الإضافية الأخرى التي أدت لسقوط الإنقاذ ولم يتضمنها النموذج فيمكن أن نذكر منها: الانشقاق الذي أصاب النواة القيادية في نظام الإنقاذ، وما لحقه من “حرب باردة” في صفوف الإسلاميين، وما اتصل به من الحروب الأهلية المتطاولة في أطراف البلاد، وما ترتب عليها من خسائر بشرية ومادية ومحاصرة دولية. وبناء على هذا فقد تضاعفت علل النظام في الداخل وفي الخارج، وتصاعدت “الحمى الثورية” التي تحدث عنها النموذج وأدت إلى سقوطه. فإذا كان ذلك كذلك فلم يبق أمامنا إلا أن نتحول إلى المرحلة الثانية؛ مرحلة ما بعد الإنقاذ لنرى ما إذا كانت تتطابق هي أيضاً مع النموذج، أم تنفرد بخصائص أخرى لم تخطر ببال السيد برينتن.
يشير نموذج برينتون، كما أوضحنا في الحلقة الأولى، إلى أن هذه المرحلة ستشهد احتدام الصراع داخل القوى الثورية، بين معتدلين يديرون الحكومة، ومتطرفين يعارضونها من الخارج، وستتطور الأمور في اتجاه نوع من “الأزمة الثورية” التي ستؤدى بدورها إلى حرب أهلية في الداخل أو حرب ضد جهة خارجية، ويتمهد الطريق بذلك للإرهاب ولسيطرة الرجل القوي. فهل نجد بين أيدينا من مؤشرات تدل على أن حلبة الصراع قد انتقلت بالفعل إلى داخل القوى الثورية؟ وهل نستطيع أن نؤكد أن حالة ما بعد نجاح الثورة تتطابق مع توقعات النموذج؟
إن من يراقب حالة الثورة السودانية الراهنة لا يعجزه أن يرى بوضوح أنها لا تكشف عن صراع داخلي واحد وحسب، كما توقع النموذج، وإنما تكشف عن صراع داخلي “مزدوج”، وصراعات جانبية متعددة تحف به. أما الصراع الداخلي المزدوج فله بؤرتان: بؤرة تتقد في بطن قوى الحرية والتغيير التي مثلت حاضنة سياسية لحكومة الثورة، وبؤرة أخرى تتقد في رأس الحكومة الانتقالية بين مكوناتها العسكرية وبعض مكوناتها المدنية. إذ لا يختلف اثنان في أن تحالف “قوى الحرية والتغيير” (الذي تولى قيادة الثورة الشعبية وحدد مساراتها) ما هو إلا تحالف سياسي هش تأسس على عجل للحاق بالثورة الشعبية، ويتكون من مجموعات سياسية متعددة، بعضها يساري التوجه، وبعضها مستقل، وبعضها ينتمي إلى أحزاب عقائدية ضئيلة العضوية، وبعضها ينتمي إلى أحزاب تقليدية كبرى، كما يضم التحالف مجموعات وتنظيمات مدنية حديثة النشأة، إلى جانب الحركات الثورية المسلحة المعارضة. وأن هذه المجموعات لم ينعقد بينها إجماع إلا على إزالة النظام القديم وإعادة هيكلة الدولة وفقاً “لإعلان” سياسي فضفاض تمت صياغته أيضاً على عجل. أما من الناحية الأخرى فلا يختلف إثنان أيضاً في أن الحكومة الانتقالية التي تشكلت في أعقاب نجاح الثورة كانت في ظاهرها حكومة “شراكة” بين “قوى الحرية والتغيير” من جهة وبين المنظومة الأمنية-العسكرية من الجهة الأخرى، علماً بأن هذه المنظومة هي أجهزة النظام القديم ذاته ولكنها تخلت عنه في اللحظات الأخيرة، ثم عدلت نفسها وأعلنت انحيازها للثورة. ولذلك فإن هذه حالة مرشحة بامتياز لما توقعه النموذج من اختلافات وشقاق داخلي. وقد صدق الواقع ذلك، إذ ظلت الوسائط الإعلامية المختلفة تنقل بين الحين والآخر اخباراً عن تحالفات قديمة تنحل وأخرى جديدة تنعقد، كما تنقل الاتهامات المتبادلة بين قيادات قوى الحرية والتغيير. وقد بلغ الأمر بأحد قيادات قوى الحرية والتغيير، ورئيس الحزب الاتحادي الموحد أن يصرح (في حوار مع الجريدة) بوجود “مجموعات داخل قوى الحرية والتغيير تقود التحالف الحاكم كل يوم من فشل إلى فشل”، ثم يدعو إلى “تصحيح” مسار تحالف قوى الحرية والتغيير لجهة أنه انحرف عن تحقيق أهداف الثورة. وتساءلت بعض المصادر الصحفية عما إذا كانت هناك “كيانات” أو “حواضن” أخرى غير قوى الحرية والتغيير تتصرف فيما هو حق أصيل للشعب السوداني.
هذا، وعادة ما يقول بعض الموالين لتحالف قوى الحرية والتغيير إن ما يطفح على الصحف من خلافات بينهم هو أمر طبيعي وينم عن مناخ ديمقراطي سليم، غير أن السؤال الذي ينبغي أن يطرح في هذا المقام: هل ما نرى هو بالفعل خلاف ثانوي بين حلفاء تضمهم رؤية متحدة، أم هو نزاع استراتيجي حول الرؤى والمواقف والبرنامج؟ وإذا قدرنا (وفقاً لما تجمع لدينا من معلومات) أن الوضع قد بلغ مرحلة النزاع الاستراتيجي، فهل من الممكن أن نرى الفئتين اللتين يتنبأ بها النموذج؟ فئة معتدلة على رأس الحكومة الانتقالية، وفئة متطرفة تقف على رصيف المعارضة والمنافسة؟
قد لا يستطيع الباحث المتعجل أن يلاحظ أي فروقات بين الوزراء وكبار المسئولين الذين أتت بهم قوى الحرية والتغيير، فجميعهم يرفعون شعار الثورة (حرية سلام وعدالة)، وكثير منهم من فئة الناشطين الذين يمتلئون غيظاً على النظام القديم، ويسعون بجد لإزالة مؤسساته ورموزه، ولإقامة حكومة مدنية كاملة السيادة على أنقاضه، ويعتبرون أن ذلك هو الهدف الأساسي للثورة. ولكن إذا تحولنا من المثل والشعار واقتربنا من تفاصيل السياسات وآليات التنفيذ وإكراهات الواقع فسنجد أن معظم هؤلاء الوزراء وكبار المسؤولين ليس لأحدهم من مصدر للقوة غير الجهاز الحكومي البالي، ومؤسسات العهد القديم المتهالكة، والخزينة الخاوية، مع تطلعات شعبية متصاعدة. وسيكتشفون أن من يمسك بعصب هذا الجهاز، على علاته، هو “المجلس الأمني-العسكري الذي تنعقد بينهم وبينه “شراكة”؛ وهي شراكة قد لا يطيقونها ولكنهم لن يستطيعوا إنجاز شيء بدونها. مما يعنى أنهم سيعجزون بالضرورة عن تغيير الأوضاع بالسرعة والكفاءة المطلوبة، وسيفقدون كثيراً من الشعبية والتأييد الثوري، تماماً كما توقع النموذج. أما العناصر الأخرى من قادة الأحزاب والتنظيمات ممن لم يشاركوا بأشخاصهم في الحكومة الانتقالية فسيقفون على الرصيف العالي للثورة، يحركون المسيرات المليونية بين الحين والآخر، ويطلقون “اللايفات”، ويصدرون البيانات والتصريحات، مؤكدين لجماهير الثورة بأنهم الممثلون الحقيقيون لروح الثورة ولنقائها، وبأنهم المطالبون الحقيقيون بدم الشهداء، وبأنهم لا يقبلون المساومات. وقد يكونوا محقين في كل هذا، ولكنهم لا يبدون استعداداً لتحمل مسئولية الحكم في الفترة الانتقالية. وهذا التدابر والتنابذ لا يمثل إلا وجهاً من وجوه “الأزمة الثورية”، كما توقع النموذج. ولكن هذه مسألة لا يمكن تجاوزها إلا بعد نظر متعمق في طبيعة “الشراكة” ثلاثية الأضلاع بين قوى الحرية والتغيير، والمنظومة الأمنية-العسكرية، والحكومة الانتقالية التي تولدت عنهما.
“الشراكة” ثلاثية الأضلاع
يذهب كثير من السياسيين والصحافيين لوصف قوى الحرية والتغيير بأنها “الحاضنة” السياسية للحكومة الانتقالية. وقد يكون هذا صحيحاً من الناحية الشكلية (إذ أن قوى الحرية والتغيير هي من وضع الوثيقة الدستورية، وشكل الحكومة المدنية وترأسها). ولكن الصحيح أيضاً أن من وراء قوى الحرية والتغيير توجد “حاضنة أعمق” ذات نفوذ أقوى، ولكنها لا تظهر في الوسائط الإعلامية. هذه الحاضنة العميقة تضم رجال أعمال سودانيين نافذين، وقيادات سياسية هامة، وسفراء لدول كبرى، وسفراء لدولتي الخليج، و”وكلاء” محليين عنهما. وقد استطاعت هذه المجموعة أن تقوم بدور “الحاضنة” الحقيقية، وأن تحقق نجاحين كبيرين: أحدهما في الجبهة (السياسية) حيث دفعت المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير (بحسب بعض المصادر) إلى الوصول لاتفاق-شراكة في وقت باكر (وذلك في منزل رجل الأعمال السوداني النافذ أنيس حجار في الأول من يونيو عام 2019 (وعليك أن تلاحظ هذا التاريخ)، وتذهب بعض المصادر إلى القول بأن اجتماعات سابقة لهذا قد انعقدت في أديس أبابا قبل سقوط النظام، حضرها رئيس جهاز الأمن السابق فريق صلاح قوش). أما النجاح الآخر فقد تحقق لها في الجبهة (الاقتصادية) حيث وافقت المملكة السعودية والإمارات (ربما بمشورة من هذه الحاضنة وتشجيع) لدعم الاقتصاد السوداني، لتنالا بذلك موضع قدم في النظام الجديد، ولتقضيا على الإسلام السياسي، ولتغلقا الباب أمام المحور الإقليمي المنافس لهما (قطر وتركيا وروسيا). ولم تمض إلا بضعة أسابيع على تشكيل الحكومة الانتقالية إلا ويعلن رئيس الوزراء ووزير ماليته، في فرح ظاهر، أن المملكة السعودية قد أودعت خمسمائة مليون دولار أمريكي في بنك السودان المركزي، وتعهدت بمليار آخر للوقود والقمح والمدخلات الزراعية. ثم يقوم رئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء، معاً، بزيارة المملكة السعودية والإمارات (أكتوبر 2019) حيث يلتقيا برجال الأعمال السعوديين، ويستمعا إلى وعود من المسؤولين السعوديين بالعمل على رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب.
لعله قد اتضح من هذا السرد أن المسار السياسي الخارجي للسودان الجديد سيكون في اتجاه المحور السعودي-الإماراتي، وأن المسار الاقتصادي سيحدده رجال الأعمال النافذين، وسيذهب بالطبع في اتجاه رفع الدعم عن السلع، وخصخصة القطاع العام وفقاً لمواصفات البنك الدولي وتوجهات الليبرالية الجديدة. وواضح أن المجموعة المكونة من عبد الفتاح البرهان، وحمدان دقلو، وعبد الله حمدوك، وإبراهيم البدوي ستكون هي مجموعة “الأقوياء الأربعة” التي ستناط بها قيادة هذا التوجه، لتدافع عنه أمام بقية مكونات قوى الحرية والتغيير. وواضح أيضاً أن هذا التوجه سيؤدى إلى عملية “فرز داخلي” في قوى الحرية والتغيير، فتؤيده وتدعمه مجموعات أساسية (المؤتمر السوداني وحزب الأمة، واليسار الجديد وآخرون)، وستعارضه مجموعات (اليسار القديم ونقابات العاملين وآخرون). وسيحتدم النزاع أول ما يحتدم حول برنامج التحرير الاقتصادي، وحول ملف السلام مع الحركات المسلحة، وحول الموقف من المحاور السعودي-الإماراتي.
وعندئذ ستقتنع “مجموعة الأربعة” بأنها لا تحتاج في هذه المرحلة إلى “حاضنة سياسية” ثورية، تزعجها بالمسيرات المليونية وتطالبها بالتحقيقات الجنائية، بقدر ما تحتاج إلى “رافعة اقتصادية” تدعمها بالنفط والقمح ومدخلات الزراعة، وتعيد ربطها بالمؤسسات المالية الدولية، وهذا ما توفره “الحاضنة العميقة” المشار اليها آنفا. أما من الجهة الأخرى فقد يصل المعارضون إلى نتيجة مفادها أن مجموعة “الأقوياء الأربعة” قد انحرفت عن مسار الثورة، وأن تحالف قوى الحرية والتغيير قد انتهى دوره، وأن الوقت قد حان لإنشاء “تحالف جديد” تهيمن عليه “لجان المقاومة”. فما هو الدور المرتقب لهذه اللجان؟ ومن الذي يحركها؟ وهل ستصبح لاعباً أساسياً يعيد التوازن المفقود؟ أم أنها ستكون بداية “لبلشفة” الثورة (على غرار النهج الذي سار عليه لينين في روسيا، وروسبير في فرنسا)؟ والتي تمهد لمرحلة العنف “الثوري”، حيث تبدأ الثورة في أكل أبنائها؟ كما توقع النموذج؟ أم أن هناك خيارات أخرى تتحدى النموذج؟ (نواصل)