رأي

تشريح الثورة: قراءة في مسارات الثورة السودانية ومآلاتها (1)

التجاني عبد القادر حامد
6 أبريل 2020
أما وقد انقضى اليوم عام على الثورة السودانية، فمن المناسب أن نتوقف لنلقى نظرة فاحصة في طبيعة هذه الثورة، وفى مساراتها، وفى الصعوبات التي تواجه، وفى كيفية مواجهة هذه الصعوبات. لقد انشغل كثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع والسياسة منذ أواسط القرن العشرين في تطوير نماذج نظرية تساعد في تفسير الثورات العالمية الكبرى (البريطانية والفرنسية والأمريكية والروسية والصينية)، وفى التعرف على مراحل تطورها، وما يعترضها من أزمات وما تحقق من نجاح وما يصيبها من اخفاق.
وقد شغلت نفسي منذ مدة، كغيرى من الباحثين، بدراسة ثورات الربيع العربي، مما جعلني اعاود قراءة ما نشر في هذا الحقل، وهو من الكثرة بحيث يصعب حصره. أود في هذا المقال أن أتوقف عند جوانب من نموذج تقدم به الأستاذ الأمريكي كرين برينتون في كتاب له مشهور نشره أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي بعنوان تشريح الثورة (وقد أمدنى مشكورا صديقي الأستاذ محمد طاهر الميساوي، حفظه الله، بنسخة الكترونية لترجمة عربية جيدة أطلع بها الأستاذ سمير عبد الرحيم الجلبى)
إن الاستنتاج الرئيس الذي انتهى اليه برينتن في هذا الكتاب هو أن الثورات عادة ما تنتهي الى حيث بدأت، ويقصد بذلك أن الثورات في نهضتها الأولى تنجح في اسقاط النظم القديمة البالية، ولكنها حينما تواجه بالمهمة العسيرة المتمثلة في اصلاح المؤسسات القائمة، أو استحداث مؤسسات أخرى بديلة، فسرعان ما يدب الخلاف في صفوف الثوار، وسرعان ما يتفاقم الى نوع من “الأزمة الثورية” التي تقود بدورها الى ديكتاتورية “الرجل القوى”، حيث تبدأ الثورة في أكل بنيها، ثم تنجر الى الحروب الداخلية والخارجية التي تجعل الجميع يفرون من الثورة بحثا عن السلام والاستقرار. ولكن ذلك لا يعنى أن الثورة عديمة الجدوى، أو أنها لا تغير شيئا. فالثورة عادة ما تدخل أفكارا جديدة، وتحدث تحولا في هياكل السلطة، وتجرى إصلاحات عديدة، غير أن الطبقة الحاكمة هي التي ستمسك بمفاتيح القوة في المحصلة النهائية.
وأعلم بالطبع أن هناك انتقادات جمة تعرض لها النموذج المقترح، فمن قائل إنه لا يفسر كل الحالات، الى من يقول إن المؤلف يتعسف في التفسير، الى قائل بأن المؤلف لا يملك نظرية عن التاريخ (مما جعل المؤلف يجرى بعض المراجعات والتعديلات في طبعات لاحقة من الكتاب). غير أن هذه الانتقادات لم تمنع باحثين آخرين من أن يستوحوا فكرته الأساسية ويقوموا في ضوئها بدراسة الثورة الكوبية مثلا، أو غيرها من ثورات العالم الثالث. وقد رأيت أحدهم (ديفيد ايدن،1974) يستخدم هذا النموذج لتحليل الثورة السعودية التي قادها الملك عبد العزيز بن سعود في الجزيرة العربية(1902-1953)، لينتهي الى نتائج مشابهة لما توقعه نموذج برينتون، ولكنه توصل أيضا الى بعض الفروقات الواضحة بين ثورة الجزيرة العربية وثورات الغرب. وهذا يؤكد ما عناه الكاتب من أن نجاح النموذج لا يكمن في “المطابقة” أو “المماثلة” التامة بين مقولاته وبين الحالات المراد تفسيرها، وإنما يكفي أن يشير النموذج الى أهم المتغيرات، وأن يساعد في طرح الأسئلة، وأن يرشد لنوعية المعلومات التي ينبغي أن تجمع وتحلل. ولكن دعني أولا أن أقدم فيما يلي تلخيصا للنقاط البارزة في نموذج برينتون، ثم أحاول أن أطرح في ضوئه بعض الأسئلة التي تتعلق بمسارات الثورة السودانية الراهنة، وما إذا كان هناك نوع من “التماثل” بينها وبين الثورات الأخرى، مع بعض التعليقات.
يذهب برينتن الى أن أي ثورة من الثورات التي قام بدراستها عادة ما تمر بأربع مراحل، هي: مرحلة الحمى الثورية، مرحلة الإرهاب والعنف، مرحلة الرجل القوى والاستقرار، مرحلة العودة الى الوضع السابق)
(1) أما المرحلة الأولي (مرحلة الحمى الثورية) فتعود الى حالة السخط الذي تحس به وتعبر عنه الطبقة الوسطى في المجتمع، فهي عنده تمثل القوة الدافعة التي تحرك الثورة، وذلك بسبب المضايقات الاقتصادية التي تفرضها الحكومة. وقد يساعد على تصاعد الحمى الثورية وجود حكومة غير ذات كفاءة، أو حاكم أخرق، أو حزب سياسي خاو من المثقفين الذين يمثلون ضمير الأمة. ولكن ما أن تنتهي المرحلة الأولى بسقوط النظام القديم إلا وينتهي شهر العسل الثوري، حيث ينتقل الصراع الى داخل القوى الثورية. وعادة ما ينشب الخلاف بين الثوار حول ما يجب أن يزال من النظام القديم، وكيف تكون الازالة، وحول نوعية النظام الجديد، وكيفية بنائه. وستتفاقم هذه الخلافات وتتبلور حول فئتين من الثوار: فئة المعتدلين الذين تتشكل منهم حكومة انتقالية مؤقتة، وفئة المتطرفين الذين يحيطون بالحكومة المؤقتة من الخارج، ويشكلون اللجان الثورية أو المجالس المحلية. وهؤلاء عادة ما يكونون أحسن تنظيما، وأقدر على التعبئة والتحشيد، ويتحولون تدريجيا الى نوع من الحكومة المنافسة التي لا تسعى لأن تحل مكان الحكومة الانتقالية، ولكنها تنتظر حدوث “أزمة ثورية”، يتم خلالها هزيمة الحكومة الانتقالية، فتتحرك الحكومة المنافسة بصورة تلقائية لتحل مكانها
(2) وبما أن الحكومة الانتقالية (المؤقتة) تكون قد ورثت تبعات النظام القديم، وتألفت من مجموعات سياسية متعددة ومتنافرة، فلن تجد أمامها من مصدر للقوة غير الجهاز الحكومي البالي ومؤسسات العهد القديم المتهالكة، مما يعنى إنها ستعجز عن تغيير الأوضاع بالسرعة والكفاءة المطلوبة، وستبدأ في فقدان الشعبية والتأييد الثوري، وذلك على عكس موقف المجموعات الثورية المنافسة لها، والتي تدعى التمثيل الحقيقي لروح الثورة ونقائها دون تحمل مباشر للمسئولية.
(3) وتبلغ الأزمة الثورية ذروتها عندما يعجز المعتدلون (التوفيقيون) عن إدارة الدولة، وعن تغيير الأوضاع الاقتصادية، ووضع دستور جديد للبلاد. وتنتهي هذه المرحلة عندما ينجح المتطرفون في احداث “ثورة في داخل الثورة”؛ أي في احداث نوع من “الانقلاب الداخلي” في صفوف الثورة. وعادة ما يتحقق هذا الانتصار تحت زعامة رجل قوى (كرومويل في الحالة البريطانية، روبسبير في الحالة الفرنسية، ولينين في الحالة الروسية). وبسيطرة الرجل القوى (من خلال مجلس ثوري، أو نحوه) يبدأ حكم العنف والإرهاب، وتبدأ الثورة في “أكل أبنائها”، حيث يُتهم المعتدلون بخيانة الثورة، فيهرب بعضهم الى المنفى، ويوضع بعضهم في السجون، أو يساقون الى المقصلة، أما من كان منهم محظوظا فيتوارى عن الأنظار ويلفه النسيان. وفى مثل هذه الظروف المضطربة قد تدخل حكومة الثورة في حرب أهلية أو حرب خارجية.
(4) أما المرحلة الأخيرة فتتمثل في العودة البطيئة الى حالة الهدوء، وهي الفترة التي سيصعد فيها طاغية جديد الى الحكم، ويتم فيها قمع الثوار المتطرفين، فيتمهد الطريق لفترة “نقاهة” ولتدخل البلاد في مرحلة الانتعاش.
ويدرك برينتن أن هناك صعوبة في وضع تصنيف دقيق للقوى الثورية المتنافسة، ولذلك فتراه يكتفى بوضع سمات عامة لها، فيشير بصفة “المعتدلين” الى أولئك الذين يتولون مهام تنفيذية (ويستجيبون من ثم لإكراهات الواقع فيقبلون المساومات وأنصاف الحلول). أما الذين يرفضون أنصاف الإجراءات، وأنصاف الحلول، وينادون بالمحاكم الاستثنائية، والشرطة الثورية، وقمع المعارضين، فيشير إليهم “بالمتطرفين”. ولتأكيد ذلك فهو يشير الى حالة الثورة الفرنسية، حيث سيطر المعتدلون على الجهاز الحكومي، بينما سيطر معارضوهم الجمهوريون على شبكة جمعيات اليعاقبة، التي استطاعوا من خلالها السيطرة على وحدات الحكومات المحلية، وقادوا حملات العنف والإرهاب. كما يشير الى حالة الثورة الروسية حيث كانت السيادة الثتائية أكثر بروزا؛ إذ تشكلت حكومة مؤقتة ذات تمثيل واسع للشرائح الاشتراكية ذات التوجه المعتدل، أما في الجانب الآخر فقد برز “البلاشفة” وبعض المجموعات الراديكالية المتحالفة معهم، واستطاعوا السيطرة على شبكة مجالس “السوفيات”، لتنتهي مرحلة الاعتدال في الثورة الروسية باستيلاء ستالين على السلطة وإزاحة تروتسكي الى المنفى.
ويرى برينتن، في محاولة منه للتعرف على سبب إخفاقات المعتدلين، أن سيطرتهم على الجهاز الحكومي هي في ذاتها مصدر ضعف، وذلك نظرا لافتقارهم للخبرة، مما يجعلهم يرتكبون الأخطاء تلو الأخطاء، فيفقدون الرصيد الشعبي الذي كانوا قد حصلوا عليه كثوار معارضين للنظام القديم، ويواجهون من ثم بشك متزايد من الجمهور العريض الذي كان يعلق عليهم آمالا عريضة على نحو برئ. وبناء على ما سبق فهو يصف المعتدلين بأنهم أنصاف ثوريين، ويلاحظ أنهم قد أرغموا في ثلاث من الثورات الأربع على التنحي عن السلطة، إن عاجلا أو آجلا، ليلقوا حتفهم أو يهربوا الى المنفى. أما من الناحية الأخرى فيصف المتطرفين بأنهم ثوريون كاملون؛ يحتقرون أنصاف الحلول، ولديهم استعداد لاتخاذ قرارات صارمة، ولا يمانعون من تشكيل محاكم استثنائية وشرطة ثورية لقمع المعارضة، ويسعون لتنظيم وتخطيط انتاج الثروة وتوزيعها بواسطة أجهزة الدولة.
هذه ملامح النموذج باختصار، فهل يمكن أن نستفيد منه في دراسة الثورة السودانية؟ وكيف؟ إن من المهم أن نسارع للتأكيد أن الغرض ليس هو “المطابقة” بين مقولات النموذج وبين مسارات الثورة السودانية (أو غيرها من الثورات)، فنحن نعلم (كما يعلم برينتن) أن لكل ثورة خصوصياتها، وإنما الغرض هو الاستفادة من النموذج في صوغ الأسئلة المناسبة التي تقود الى فهم أعمق للثورة السودانية؛ كأن نتساءل مثلا: الى أي مدى يمكن القول بأن النظام القديم قد سقط نتيجة لأسباب اقتصادية-مع فساد في الإدارة، وتصاعد في الغضب الشعبي، وشلل في أجهزة الدولة وقيادتها؟ هل أن الطبقة الوسطى هي التي حركت الثورة؟ وما هي خصائص الطبقة الوسطى في الحالة السودانية الراهنة؟ وهل هناك بوادر لانشقاقات بين الثوار؟ وهل تبدو في الأفق ملامح “الازمة الثورية” التي يتوقعها النموذج، والتي تمهد الطريق لظهور “الرجل القوى”؟ ومن هو “الرجل القوى” في الحالة السودانية الراهنة؟ وما مصدر قوته؟ وهل لجان المقاومة هي بداية لبلشفة الثورة، وهل تتجه الثورة من ناحية عامة نحو تطور ديموقراطي سلمى، أم تتقهقر نحو حرب أهلية، وتجرجر نحو حرب خارجية؟ (نواصل)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى