تحوُّل الصحافة من أداة رقابة وتعبئة إلى معول هدم وتثبيط في زمن الحرب

خالد محمد أحمد
يتضح في كثير من السياقات أن (بعض) الصحفيين لا يتعاملون مع مهنتهم بوصفها رسالة ومسؤولية أخلاقية، بل يتخذونها مطيَّةً للتقرُّب من دوائر القرار والظفر بحظوة. وما إن تخيب هذه الغايات، حتى ينقلب الخطاب فجأة من التأييد إلى العداء، ومن الإشادة إلى التشويه.
ومن خلال متابعة الخطاب الإعلامي في الآونة الأخيرة، لا يفوت على المتابع الحصيف أن جانبًا معتبرًا من النقد الذي يوجّهه ممَّن لا يُحسَبون على الجنجويد ومن شايعهم لقادة الجيش ومسؤولي الحكومة على وجه التحديد يصدر عن صحفيين موتورين يغلب على طرحهم طابع الشخصنة والانفعال بسبب عجزهم عن تحقيق طموحاتٍ شخصية دبَّجوا من أجلها المقالات ونسجوا حولها المواقف.
ولولا التحفُّظ المهني وخشية الانزلاق إلى التشهير، لأوردنا بعض الأمثلة الدالَّة؛ غير أننا على يقينٍ بأن المتابعين، وخاصةً من أهل المهنة، قادرون على تبيُّن الأسماء بين سطور هذا المقالة.
لقد استبدَّ بهؤلاء دافع الانتقام، فتحوَّل النقد من أداة إصلاحٍ إلى معول هدمٍ لا يميّز بين المحاسبة المهنيَّة والاستهداف الشخصي. والمفارقة اللافتة أن قسوة هذا الهجوم، في أحيان كثيرة، تفوق قسوة خصوم الدولة المعروفين، حتى كأنَّ هؤلاء الصحفيين قد تولَّوا عنهم عناء التشويه والتقويض باندفاعٍ لا يخلو من مرارة. ويكاد القارئ لا يعثر في كتاباتهم الحالية على اعترافٍ واضح بإنجازٍ أو خطوة إيجابية بعد أن كانوا إلى وقتٍ قريب من أشدّ المتحمّسين والمناصرين.
ومن الضروري التنبيه، درءًا للَّبس، إلى أن هذا الوصف لا يسري على مجمل الجسم الصحفي، ولا ينتقص من وجود أصواتٍ صحفية مهنيَّة شجاعة ومتزنة تمارس النقد بوصفه واجبًا إصلاحيًا لا أداة تصفية، وتحرص على الموازنة بين الصدق والمسؤولية، وبين الجرأة والحكمة.
ولا يعني هذا، بطبيعة الحال، الطعن في مشروعيَّة النقد أو الدعوة إلى الصمت؛ فالنقد المهني حقٌّ أصيل وواجب لا غنى عنه لتقويم الأداء وتصحيح المسار. غير أن الإشكال يكمن حين يفقد النقد توازنه ويتحوَّل إلى أداةٍ للابتزاز، أو حين تُقدَّم المساوئ مجرَّدة من السياق ومفصولة عن تقدير المآلات في لحظةٍ وطنية بالغة الحساسيَّة. وغنيٌّ عن القول إن الصحافة، بوصفها سلطةً رقابية، مطالَبةٌ بالموازنة بين كشف الخلل وحماية الصالح العام، وبين قول الحقيقة وتقدير التوقيت.
وفي هذا السياق، فإن الصحفي الذي يعجز عن مواءمة أدواته وخطابه مع طبيعة مرحلةٍ حرجة تقتضي الاصطفاف الوطني والدفاع عن الكيان العام، ويواصل ممارسة النقد بالآليات ذاتها التي تُستخدَم في الظروف العادية، إنَّما يكشف عن قصورٍ في ملكات الاحتراف، وأزمةٍ في فهم جوهر الصحافة ودورها وحدودها، وافتقارٍ إلى القدرة على وزن الكلمة والموقف بميزان الذهب.
وعلى هذا الأساس، ليس من الحكمة ولا من المهنيَّة الجهر بكلّ عيبٍ في كلّ وقتٍ، وخاصةً إذا كان ذلك يؤدّي إلى تقويض المعنويات، أو تغذية سرديَّات الخصوم وتوفير ذخيرةٍ مجانية لهم دون أن يفتح أفقًا حقيقيًا للإصلاح. فإذا كان السكوت المؤقت عن بعض أوجه القصور لا يكرّس ظلمًا ولا يحمي فسادًا، وكانت المصلحة العامة الراجحة تقتضي التريُّث، فإن هذا الخيار يصبح جزءًا من المسؤولية لا نقيضًا لها.
وليس من قبيل المصادفة أن يحظى هذا النوع من الخطاب باحتفاءٍ وترويج من أعداء الوطن، وهو أمرٌ كاشفٌ لطبيعة الرسائل التي يحملها، وللجهات التي تستفيد منه في نهاية المطاف.
خلاصة القول: الصحافة مهنة رسالة قبل أن تكون وسيلة، ومن اتخذها سلَّمًا لمآرب شخصية ضيّقة، ثم حوَّلها إلى أداة انتقامٍ عند الإخفاق في بلوغ المقاصد، فقد أساء إلى نفسه قبل أن يُسيء إلى غيره، وجرَّد الكلمة من شرفها، وأفرغ الدور الصحفي من معناه الحقيقي.



