الأحداث – وكالات
ارتفعت التجارة العالميّة للأغذية بنسبة 350% بين عامي 2000 و2021 «مؤتمر الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية» (UNCTAD)، ووصلت قيمتها إلى 1.7 تريليون دولار. ولكن كميّة الأغذية المستوردة وطبيعتها تتفاوت بين الدول الغنيّة والفقيرة. وعلى الرغم من ارتفاع إنتاج الغذاء لا يزال نحو 10% من سكّان العالم يعانون من الجوع المزمن.
دول تأكل ممّا لا تزرعتتّسم أسواق الغذاء بنسب احتكار مرتفعة. بحسب تحقيق نشرته The Guardian عن سوق الغذاء الأميركي، يتبيّن أن 4 شركات غذائية احتكرت أسواق 80% من السلع الغذائية في العام 2021. فيما تحتكر 5 شركات ما بين 70% إلى 90% من السوق العالمية للبذور الزراعيّة. تسمح الاحتكارات الغذائية بارتفاع الأسعار تعسّفياً، ما يفقد المجتمعات الفقيرة أمنها الغذائي ويحرم المزارعين والعمّال في شركات الأغذية من التعويض العادل.
يظهر الميزان التجاري الغذائي أن الدول الغنيّة في حالة عجز دائم، إذ فاق استيرادها للأغذية كميّة تصديرها لها. على الرغم من انخفاض هذا العجز تدريجياً منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008، سجّلت الدول الغنيّة عجزاً غذائياً قيمته 51 مليار دولار في العام 2022.
في المقابل، بقي الميزان التجاري الغذائي للدول الفقيرة إيجابياً طوال السنوات الثلاثين الماضية. وفي العام 2022، ارتفعت قيمة صادرات السلع الغذائية بنحو 42 مليار دولار عن قيمة السلع المستوردة.
الجوع في الجنوب تخمة في الشمال
يظهر التفاوت في الموازين التجارية اعتماد الدول الغنية على الإنتاج الزراعي والصناعات الغذائية في الدول الفقيرة. وينتج تركّز الجوع في الدول الفقيرة عن الممارسات الاستخراجية للشركات العالمية التي تحتكر أسواق الغذاء، وعن الحروب التي أنتجت 70% من حالات الجوع عالمياً. تتفرّد حالة فلسطين عن سائر الدول الفقيرة، حيث 80% من الأفراد الأكثر جوعاً في العالم يعيشون في غزّة اليوم نتيجة الحصار الإسرائيلي المحكم على القطاع.
يعزّز الهدر التفاوتات الغذائية بين الدول الفقيرة والغنية، ويتسبِّب بإتلاف 30% من الإنتاج الغذائي العالمي، أي ما يوازي تريليون دولار سنوياً، وهي كميّة كافية لإطعام نحو 1.5 مليار شخص، أي ضعف عدد الجياع في العالم. يتركّز الهدر غالباً بين مراحل الحصاد والصناعة في البلاد الفقيرة، وعلى مستوى مراكز البيع والاستهلك في البلاد الغنية. ويعتبر المستهلكون في الدول الغنية الأكثر هدراً للغذاء في العالم.
شكّلت الأغذية المصنّعة نحو 50% من مجمل استيراد الأغذية في الدول الغنيّة وهي نسبة بقيت شبه مستقرّة منذ العام 2000. في المقابل لم يتخطَ استيراد الأغذية المصنّعة سوى 30% تقريباً من مجمل الأغذية المستوردة في الدول الفقيرة، وتقلّبت هذه النسب بشكل ملحوظ خصوصاً بسبب الأزمة المالية في العام 2008 وجائحة كوفيد في العام 2020، ما يؤكّد هشاشة الأمن الغذائي في هذه الدول وانكشافها على صدمات اقتصادية خارجية.
لوحظ استثناء واحد يخصّ دول المحيط الهادئ الفقيرة، وهي دول جزريّة تفتقد لمساحات زراعية واسعة، حيث ارتفع اعتمادها على استيراد الأغذية المصنّعة إلى نحو 50%.
أوجه عدّة للامساواة
يُعتبر الاستهلاك المفرط للأغذية المصنّعة التي تحتوي على نسب مرتفعة من الملح، والسكر، والدهون… مُضر للصحة. فيما تتجنّب بيانات «مؤتمر الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية» (UNCTAD) هذا المنحنى الصّحي لتجارة الأغذية المصنّعة، تتعدّى النتائج السلبية لتفاوت الاستيراد والتصدير للأغذية المصنّعة بين الدول الفقيرة والغنيّة التبعات الصحيّة المباشرة.
اتبعت الدول الغنيّة منذ سبعينيات القرن الماضي سياسات لتقليص أنشطتها الصناعية في أراضيها، ونقلت مراكز الإنتاج إلى الدول الفقيرة، التي تزخر بمصادر المواد الأوليّة واليد العاملة الرخيصة وندرة الضوابط القانونية، لا سيّما التي تخصّ حقوق العمال وفرض الضرائب والحفاظ على البيئة. وعلى الرغم من مضاعفة هذا التحوّل اعتماد الدول الغنية على الإنتاج في الدول الفقيرة، استطاعت الشركات العالمية للغذاء بدعمٍ من دولها بسط سيطرتها على أدوات الإنتاج وتعزيز احتكاراتها على حساب الأمن الغذائي العالمي، وهذا ما شهدناه فعلاً إبان جائحة كوفيد والحرب في أوكرانيا وما أحدثته من اضطرابات في شبكات إمداد الغذاء.
تتسبّب أساليب الإنتاج الزراعي المكثّف بانبعاث 26% من الغازات الدفيئة في العالم، واستهلاك 50% من الأراضي الصالحة للسكن و70% من المياه العذبة. كما أنّها تلوّث المياه بمواد وأسمدة عضويّة، وتدمّر الأنظمة البيئية بفعل تدمير النباتات وتهجير الحيوانات. تقضي الزراعة المكثّفة أيضاً على الأصناف النباتية والحيوانية المحلّية، وتفرض تكاثر أصناف محدّدة تعرّض الاقتصادات المحليّة إلى مخاطر الأوبئة وتُدمّر العادات والتقاليد الغذائيّة. يتركّز التدمير البيئي وانعكاساته على الصحة العامة والمجتمعات في الدول الفقيرة فيما تُصدّر المنتجات الغذائية بأسعار بخسة إلى الدول الغنيّة وتبقى الدول الفقيرة في حالة انعدام للأمن الغذائي.
يتطلّب الانتقال إلى نظام غذائي عالمي أكثر عدالةً تعديلات عديدة على النمط الصناعي والاستهلاكي الحالي. أوصت لجنة خبراء في الغذاء والصحة خفض إنتاج الأغذية المصنّعة بنسبة لا تقلّ عن 50% والاعتماد على الأغذية الطبيعيّة. وهذا يتطلّب بالدرجة الأولى تفكيك الشركات الاحتكارية والانتقال إلى نمط إنتاج محلّي يفاضل الأصناف المحليّة التي تكيّفت مع المناخ وذات قيمة غذائية مرتفعة. واستنتجت اللجنة أن «الغذاء هو العامل الأكثر فعاليّة لتحسين صحة الإنسان والاستدامة البيئية على الأرض»، لذلك يبقى بناء نظام غذائي عالمي عادل ركيزةً لبناء مجتمعات واقتصادات أكثر عدالة.