رأي

تأملات في خطاب رئيس الوزراء كامل إدريس إلى أميركا اللاتينية  

بقلم : صباح المكّي  

من الخرطوم إلى بوغوتا، ارتفع صوت سوداني مجلجل، عَبَرَ المحيطات بالإسبانية الفصيحة، مخاطباً شعوب أميركا اللاتينية كافة، لا الكولومبيين وحدهم، داعياً إيّاهم إلى الوقوف صفاً واحداً في وجه الإبادة الجماعية وتجارة المرتزقة التي تنزف منها دارفور.

اختار رئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس شاشة التلفزيون القومي السوداني منبراً لخطابه، لكنه لم يوجه كلماته إلى الداخل السوداني فحسب، بل انطلقت رسالته عابرة للحدود والقارات، لتستقر في قلوب أبناء أميركا اللاتينية مباشرةً، بالإسبانية الصافية التي لم تُفلترها أعراف الدبلوماسية.

لم يكن ذلك محض صدفة، بل خياراً واعياً: إذ حين خاطب الكولومبيين وسائر الناطقين بالإسبانية بلغتهم الأم، تجاوز الحواجز الرسمية ليصل إلى أعماق الضمير الشعبي. فجاء خطابه مشبعاً بإيقاع الألم السوداني، ومترعاً في الوقت نفسه بوضوح التضامن ونبرة التحذير. كان نداءً يتخطى الجغرافيا ويستعلي على الحدود.

في خطابه، استدعى د. إدريس ضمير القارة اللاتينية، مستحضراً صدى الأصوات الكولومبية التي أدانت تصدير المرتزقة إلى الحروب الغريبة. ثم زيّن خطابه برموز الثقافة الناطقة بالإسبانية: صمود بيكاسو، أشعار نيرودا، سحر ماركيز، ومعاناة فارغاس يوسا، قبل أن يحوّل هذا الإرث الثقافي إلى دعوة أخلاقية مُلحة: قفوا مع السودان، اكسروا حصار الفاشر، وأوقفوا الاتجار بالبشر تحت لافتة المرتزقة.

لقد كان خطاباً سامياً في جوهره، جمع بين الذاكرة الثقافية والعاجل الأخلاقي. غير أنّ ما وراء رصانته الدبلوماسية يكمن نداء أشد وقعاً: مواجهة حقائق الإبادة، والخيانة، وتجارة الموت التي تدنس شرف الأمم.

الفاشر… جرح مفتوح منذ أربعمئة يوم

لم تُحاصَر الفاشر أياماً أو أسابيع، بل أُخضعت لأكثر من أربعمئة يوم متواصل من التجويع والحرمان. أربعمئة يوم من المجاعة والهلاك؛ من انهيار المستشفيات؛ من انقطاع الدواء والكهرباء؛ من أطفال يموتون لأن الممرات الإنسانية أُغلقت عمداً بسلاسل الحديد والنار.

إن هذا الرقم ليس مجرد إحصاء، بل هو حكم قاطع. يكشف إبادة تُمارَس ببطء محسوب، وبمنهجية دقيقة، وبدم بارد. لم تكن عرضاً عابراً، بل سياسة مرسومة بوعيٍ وجُرمٍ مع سبق الإصرار.

اليوم، تقف الفاشر كـ”غزة ثانية” في قلب إفريقيا — مدينة مجوّعة ومخنوقة أمام عيون العالم. وفي الآن نفسه تحولت إلى “لينينغراد إفريقيا” — رمزاً للمقاومة، ومسرحاً لإرادة أمة تأبى الانكسار أمام آلة حرب وحصار خارجي يريد سحق روحها قبل جسدها.

المرتزقة وأمراء الحرب… والوثائق المسرّبة

أشار رئيس الوزراء إلى المرتزقة الكولومبيين، لكنه لم يفضح علناً من يقف وراء تجنيدهم وتسليحهم وتمويلهم. فهؤلاء ليسوا مغامرين طائشين ولا مقاتلين عابرين، بل أدوات في حرب بالوكالة صيغت خطوطها الأولى في الخارج. أمّا مركز قيادتها فهو في أبوظبي، حيث يجلس مهندس هذه المأساة، كما أكّدته التحقيقات الدولية وأثبتته الوثائق الاستخبارية المسرّبة.

من بين تلك الوثائق أمر انتشار سري مؤلف من 18 صفحة، مكتوب بالإسبانية ومؤرخ في 1 ديسمبر 2024 بالفاشر، يحدد مهام وحدة كولومبية تُدعى: كتيبة عمليات “ذئاب الصحراء”. وثيقة تُفصّل سلسلة القيادة، قواعد الاشتباك، والأهداف الميدانية — بل وتذكر صراحة نوع الذخائر الواجب استخدامها، بما فيها الفوسفور الأبيض المحرّم دولياً عند استهداف المدنيين. وجوده في أوامر رسمية ليس زلة، بل برهان على اعتماد استراتيجية ممنهجة للإبادة.

وقد عزّزت هذه الوثائق لقطات مصوّرة استُخلصت من أجهزة مرتزقة كولومبيين قُتلوا في دارفور، تُظهرهم يقاتلون جنباً إلى جنب مع ميليشيا الدعم السريع. فتلاقت الوثائق بالصوت والصورة لتغلق الباب أمام الإنكار وأمام التضليل.

إنها حلقة متكاملة من الدلائل التي تهدم كل ذرائع التستر: فحرب السودان ليست نزاعاً أهلياً داخلياً، بل حرب إبادة مدبّرة من الخارج، تُموَّل وتُدار وتُنفّذ من أبوظبي، عبر شبكات تجنيد وتهريب وتصدير للمرتزقة. ليست سلطة أبو ظبي متفرجة، بل هي صاحبة اليد الطولى وصاحبة التخطيط والتنفيذ.

بوليفار… روح التحرير

استحضر د. إدريس رموز الثقافة الناطقة بالإسبانية، لكنه أغفل ذكر الأهم والأخلد في الذاكرة الكولومبية: سيمون بوليفار، المُحرِّر ومؤسس غرّان كولومبيا.

لم يكن بوليفار جنرال استقلال فحسب، بل ضمير قارة بأسرها. علّم أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الكرامة لا تُصان في ظل العبودية، وأن السيادة وحدها هي حصن المستقبل. بالسيف في يده والرؤية في قلبه، مزق نير الاستعمار الإسباني وحرر كولومبيا وفنزويلا والإكوادور وبيرو وبوليفيا، وخطّ على خريطة التاريخ أول تجربة في الوحدة القارية والحرية الجمهورية.

غير أنّ ما نشهده اليوم هو انقلاب مأساوي على إرثه: أن يتحول أبناء بوليفار من حملة مشاعل الحرية إلى أدوات مأجورة في حرب غريبة، يُستأجرون لخدمة أسياد في سلطة أبوظبي، لهو تدنيس مباشر لرسالته وخرق لعهده التاريخي.

تشي غيفارا… ضمير التضامن الأممي

وإلى جانب بوليفار، ينهض وجه آخر خالد: إرنستو “تشي” جيفارا.

إن كان بوليفار أب الاستقلال، فإن جيفارا كان ضمير الثورة العابرة للحدود. حمل نضاله إلى الكونغو وبوليفيا، مؤمناً أن العدالة لا تُقاس بالخرائط، بل بالإنسانية.

فأي سخرية مُرّة أن يُختزل الشباب الكولومبيون اليوم إلى مرتزقة في السودان — لا ليناصروا المظلوم، بل ليبطشوا به، لا ليجسّدوا التضامن، بل ليخونوه.

جيفارا قال: “حيثما وُجد الظلم، فذاك وطني.” لكنه لم يقصد يوماً أن الوطن حيث تُباع البندقية لمن يدفع أكثر. كان ثائراً لا مُرتزقاً، مقاتلاً من أجل الكرامة والحرية، لا تاجراً للموت. أمّا المُرتَزِقةُ في دارفورَ فَهُمُ النَّقيضُ — الفَجوةُ بَينَ المَوتِ مِن أَجلِ الحُرِّيَّةِ وَالقَتلِ مِن أَجلِ المالِ.Shape

إرث بوليفار وتشي جيفارا… حين دنّسه المرتزقة

إن استدعاء رمزي بوليفار وتشي جيفارا معاً هو بمثابة استدعاء لمحكمة التاريخ ذاتها: بوليفار، مؤسس مشروع التحرر والوحدة القارية، وتشي جيفارا، الضمير الأممي الذي جسّد التضامن العابر للحدود. لقد مثّلا معاً الحرية والتضامن، مبدأين لم يكن يفترض أن ينفصلا. وما نراه اليوم في دارفور ليس مجرد خيانة عابرة لذلك الإرث، بل تدنيس فجّ له، وانقلاب على رسالتهما التحررية.

في هذا السياق، جاء خطاب د. إدريس بالإسبانية، عابراً للمحيطات، وبرغم ما اكتنفه من قيود الدبلوماسية، لم يكن مجرد رسالة سياسية، بل شهادة تاريخية وصوت وطنية متجذِّر، يخاطب الضمير الإنساني قبل أن يخاطب دهاليز السياسة. غير أنّ التاريخ لا يتبدل بالكلمات وحدها، بل بالفعل. لقد استدعى الخطاب روح التضامن، لكنه حمّل السامعين واجب الحركة: تفكيك شبكات التجنيد، ملاحقة الشركات التي تتاجر بالبشر كما لو كانوا سلعاً، فرض العقوبات على الممولين المتاجرين بالدماء، وفتح الممرات الإنسانية نحو الفاشر، المدينة التي تنزف منذ أربعمئة يوم من الحصار.

إن السودان اليوم يقف في محكمة التاريخ، مستدعياً بوليفار وتشي جيفارا لا كذكرى بعيدة، بل كحكمٍ على الحاضر. فإما أن تنحاز أميركا اللاتينية إلى إرثهما وتناصر الحرية والتضامن، وإما أن تصمت، فتُسجَّل في صفحات التاريخ شاهدة على تدنيس ذاك الإرث بأيدي المرتزقة.

إن المرتزقة الكولومبيين في دارفور ليسوا إلا تدنيساً صريحاً لإرث بوليفار وتشي جيفارا.

الكلمة الفصل

إلى العالم

لا تُعرضوا بوجوهكم ولا تُشِيحوا بأبصاركم. فالصمت ليس حياداً، بل هو تواطؤ مموَّه بجبنٍ مذلّ. لقد أقسم العالم يوماً أن لا تتكرر المآسي، فإذا بالفاشر ترزح تحت حصارٍ جاوز الأربعمئة يوم، تتجرّع المجاعة وتُسفك فيها الدماء، ويُباد أهلها تحت نظر أممٍ شاخصة لا ترفّ لها جفون. إن السكوت اليوم ليس امتناعاً، بل إجازة صريحة للإبادة، ورخصة معطاة للموت كي يزحف بلا قيد ولا وازع.

وسيسطر التاريخ حكمه بالمداد القاطع: سيذكر الأيدي التي قبضت على الزناد، كما سيذكر الشفاه التي أُطبِقت بالصمت، والقصور الدبلوماسية التي أعرضت بوجهها، والقوى التي قدّمت حساب الربح على حرمة الدم الإنساني.

ولْيُعلَم علماً يقينياً: إن لم يُكسر هذا الاتجار الآثم باللحم والدم، وإن تُركت تجارة المرتزقة سادرة بلا حساب، فأنتم واهمون إن ظننتم أنكم في مأمن. إن الوحش الذي غذّيتموه لن يطول به القيد، بل سينقضّ يوماً على سادته، ويأكل أوّل من يبتلعُه أولئك الذين خُيِّل إليهم أنهم يملكون زمامه.

إلى سلطة أبوظبي… مهندسة الدم وتجارة الموت

إنّ التاريخ لا يغفر للمرتزقة، ولا للحكّام الذين يشترونهم، ويسلّحونهم، ويطلقونهم كالذئاب على الأبرياء. يا سلطة أبوظبي، لستَ متفرجاً في هذه المذبحة، بل مهندسها، وخازن موتها، وتاجر دمائها.

ذهبك المسروق من دم السودان، ودولارات نفطك، قد تشتري لك صمتاً عابراً، وقد ترشو القصور الدبلوماسية وتُعطّر جرائمك بمساحيق السياسة، ولكن سيأتي يوم يتحطّم فيه جدار الصمت، ويغدو السمّ الذي أعددتَه لغيرك هو الكأس الذي ستُجبَر على شربه.

ستُسقى يوماً من ذات الكأس التي ملأتها سماً لنا، وللأمم الأخرى التي أوقدت فيها الحروب، ورعيت فيها الميليشيات، وأرسلت إليها الموت إلى عقر البيوت.

إن القبور التي حفرتها في دارفور ليست للآخرين وحدهم، بل هي القبور التي تنتظرك. فالتاريخ لا يرحم، والعدالة حين تأتي، تأتي كالنار، تلتهم لا القتلة الذين ضغطوا على الزناد وحدهم، بل الأيادي التي سلّحتهم، والألسن التي برّرتهم، والتيجان التي آوتهم.

وكما يقول المثل السوداني: “يا حافر حفيرة السوء، وسِّع مراقدك فيها.”

ويوماً ما، يا سلطة أبوظبي ستتجرّعين كَأسَ مَنونَكِ. فكما تدينين تُدانين، ولن يحميك تاجك يوم يشتعل رماد ما صنعتِه ناراً تأكلك أولاً. وتلك سنّة الكون وحكم التاريخ: هكذا كان، وهكذا هو، وهكذا سيكون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى