بين الشهيد هشام بيرم والشهيد ماجد كامل

د. محمد عبدالرحيم
١. كان الشهيد ماجد كامل يقول لبعض الخاصة من إخوانه أن (الشهادة) هي (حالة) يصلها الإنسان ويعيشها قبل أن يتوجها ب (خروج النفس) في أرض المعركة. فالعشرات أو المئات او الألوف الذين يصلون لأرض المعركة الأصل فيهم أنهم جاءوا بنية الجهاد. لكن قليل منهم جدا جدا من يكون (جاهزا) للشهادة. عشان تكون جاهز للشهادة لا بد أن تكون (وصلت) لهذه (الحالة) . و (الوصول) دة ما مسألة (قرار) تتخذو لكنو (مرقى) بتصل ليه بتحقيقك في نفسك لي شروط هذا (المرقى) والمقام.
بالفهم دة ماجد كامل خص لبعض خاصته إنو (جاهز) للشهادة. وبعض من خصهم بالكلام أحياء بيننا. وحالة (جاهزية) ماجد وصل ليها سنوات قبل استشهاده. لأنو لما قال الكلام دة قعد أكثر من خمس سنوات خاض فيها جولات كتيرة من المعارك وكان كل مرة بيرجع منها سالم لحدي ما نال المراد في مارس ٩٧.
٢. (الحالة) دي مقام تتداخل فيه بكثافة شديدة مفاهيم زي (النفس) و (الروح) و (الموت) و (الآخرة).. وتخوض فيه (النفس) معارك داخلية شرسة بين مفهوم أن (الرصاصة تنقلك من عالم الحياة إلى الموت) وبين أن تكون (الرصاصة هي التي تموت داخل جسدك لتحرر نفسك وروحك وتطلقها إلى الحياة الحقيقية التي تنشدها). التنازع بين أن تكون هذه المفاهيم (مقنعة من ناحية نظرية) وبين أن تستطيع أن (تعيشها) حقا.
والوصول للمقام دة دونه تنازع نفسي طويل وصعب.. ودونك صورة من هذا الصراع صورها بروعة وعبقرية الشهيد الآخر الشيخ الشاعر عبدالقادر علي وهو يعيش هذا (التنازع) على طريق (مخاض) الوصول ل (حالة) الشهادة قبل أن ينالها بعدها بحدث (القتل المادي):
أنتِ يا نفسُ هجين
أنتِ نفس.. وقرين
كلما شبَّ الحنين
قلتِ: نمضي بعد حين!
بِتُّ في الحبس رهين
أسكب الدمع السخين
الشهيد عبدالقادر على في (مخاض) وصوله (للحالة) صور لنا وهو يخاطب نفسه ملامح من (محطات) النزاع ما يدفع منها نحو (الوصول) وما (يثبّط) الوصول مثل (الجفاء) و (العزم) و (الصدق) و (الخفاء) إذ يقول في تصوير عبقري آخر ل (مخاض الوصول):
لا يرى حبلَ الوصال
من كان دلواً للجفا
والعزم في صدقِ السؤال
إن طال بالله كفى
والعزم في قصدِ المنال
والصدق حتماً في الخفا
ماجد كامل في رحلته الأخيرة رأى في النوم أنه سينال الشهادة. بل رأى أنه سينالها في يوم كذا من شهر كذا. هذه الرؤية رآها قبل شهر أو أكثر من استشهاده. وكان معه عند استيقاظه من النوم مستبشرا فرحا بهذه الرؤية الأخ الحبيب الباشمهندس أبوبكر محمد يوسف وآخرين. وحكى الرؤيا مباشرة للأخ أبوبكر.. الذي ظل ملازما له ومراقبا طيلة الأيام التي سبقت استشهاده والذي حدث للمفارقة (والتي لا أدري لها تفسيرا) بعد يوم واحد من التأريخ الذي رآه في الرؤيا.. (شخصيا كان تعليقي أنه لا بد أنه كان هناك خطأ في حساب التأريخ ذاك العام لأني أثق في دقة رؤية ماجد أكثر من ثقتي في حساب أيام الشهور!!). الأخ الحبيب أبوبكر ما زال موجودا بيننا.. وعنده من تفاصيل هذه الأيام حول ماجد الكثير الذي يجب توثيقه.
٣. لا تربطني علاقة خاصة بالشهيد (هشام بيرم) لكن الواضح لي جدا أن استشهاده بالأمس لم يكن إلا تتويجا ل (حالة) الشهادة التي وصل إليها وعاشها حينا من الزمن قبل أن يتوجها بالأمس.
الشهيد هشام ظهر في أكثر من فيديو في أوقات سابقة يتحدث لمن حوله عن أنه (شهيد) قادم!! نبرة الصدق والعزم واضحة في كلامه.. والصدق هو (حتما في الخفاء) كما قال الشهيد عبدالقادر علي.. لكنه كان دائما ما (يلمع) من عيني الشهيد هشام.
كانت كل (البوستات) والرسائل التي كتبها مؤخرا تدور حول موضوع واحد فقط هو (الوصايا)!!.. وصايا لما يريد من من يرسل إليهم أن يفعلوه بعده.. وصايا على عجل من إنسان يبدو انه على عجل من أمره ليس ل (الوصول) لأنه (وصل) مسبقا.. لكن (للتتويج) الذي ما هو إلا مسألة زمن فقط بعد (الوصول) ل (حالة الشهادة).
بالأمس رأينا مقطع فيديو للشهيد هشام وهو في بداية المعركة التي استشهد فيها وهو يخاطب الدعامة بكلمات.. سيختلف صداها ومعناها بين من يسمعها من (الخاصة) الذين يعرفونه وبين باقي الناس:
( نحن يا دعامة قايلننا الموت دة خايفين منو؟ نحن الليلة جينا محل الموت دة والحمد لله ماشين عليه. الله أكبر عليكم يا دعامة).
ربما لم توثق الكاميرا بعدها إلا آخر لحظات (الوجود المادي للنفس) وهو مسجى على الأرض غارق في دمائة ويغطي (التراب) وجهه وملابسه.. يرفع سبابته اليسرى بشهادة التوحيد.. وربما كان هذا آخر ما سمحت له (نفسه) من فعل قبل تحررها وانطلاقها للحياة الحقيقية!! لتظهر بعدها لقطة جسده ملفوف ب (بطانية) في انتظار (الدفن)!! تحت نفس التراب الذي غطى وجهه وملابسه.. تراب (أم صميمة).. لم يفرق مع هشام أن يتعفر بتراب أم صميمة أم الجنينة أم منصوركتي ام طوكر أم ود النورة أم الهلالية أم جبل موية أم المابان.. فكله عنده نفس التراب.. تراب السودان الذي تهون الأنفس والدماء في سبيل سلامته.
٤. الشهيد هشام بيرم ليس هو الوحيد. هو فقط نموذج للمئات والآلاف من أبناء هذا الشعب الكريم.. ظلت تنجبهم هذه الأرض الطيبة.. ماعقمت عن إنجاب أمثالهم يوما ولن تفعل. إن قدّر الله نموذجا تم توثيقه بالصور والفيديوهات مثل هشام وأمثاله فهناك المئات ممن لا يعرفهم أحد.. ولا يضيرهم ألا يعرفهم الناس لأن رب الناس يعرفهم..لم توثق لهم الكاميرات لكنهم أروا ربهم ما فعلوا.. هم كذلك منتشرون منبتا وأصلا من كل بقعة من أرض السودان الطيبة شمالا وجنوبا.. شرقا وغربا ووسطا. رجال يعلنون لنا كل يوم أن معدن هذا الشعب هم هؤلاء وليس شلة المتعطين البطلة منزوعي الحياء والموهبة والمحرومين من أي مِزعة مكرمة ممن يتصارعون حول فتات سلطة ويتقاتلون حول تقاسم ( كيكة) يرون أنها تنضج على نار وقودها دماء هؤلاء الشباب!!!
٥. اللهم تقبل الشهيد هشام وإخوته الكرام عندك في أعلى الجنان.. ولا نقول إلا ما يرضي الله.. ونثق ثقة مطلقة لا يدانيها ذرة من شك أن دماء هؤلاء الكبار لن تكون إلا رفعة ومنعة لهذه الأرض الطيبة



