أميرة الجعلي
فقدتُ كثيراً من الأقرباء والأصدقاء، لكن لم أحس بواجب الكتابة إلا عندما نعى الناعي سعادة الفريق طيار الفاتح عروة، إذ أنني اخترت التحرير وصناعة المحتوي منذ سنوات الدراسة بجامعة الخرطوم و طيلة مسيرتي المهنية، ونفرت من كتابة الرأي لأن ذلك سوق زبائني له باعته وسماسرته، فأخترت طريق الحقائق المجردة.
لم أكن أعرف الفاتح عروة إلا اسماً في الفضاء العام رغم تقاطعات علاقته مع اسرتنا الممتدة في الهاشماب، علق في ذاكرتي حينها عن الرجل رغم شهرة معاركه الدبلوماسية في الأمم المتحدة و تاريخه الاستخباري والبطولي، ولكن علق بذاكرتي لمسة الوفاء النادرة التي أقامها في الساحة الخضراء لتأبين صديقه ملس زيناوي، وسط حشد متدفق من أعضاء الجالية الإثيوبية في الخرطوم، حيث قال (أكلت مع زيناوي الإنجيرا في الديم وكسلا وبورتسودان والقضارف، وعرفته مناضلاً ثائراً في الجبال). ثم تبنى الاحتفالات الشعبية في أديس أبابا حيث سيَّر قافلة ثقافية و أقام ليالي فنية أحياها الفنان ياسر تمتام حينها.
حتي جاء العام 2012 و بين يدي حوار اجريته مع السفير الاثيوبي حينها أبادي زمو، في الخرطوم لصحيفة (اليوم التالي) ذكر لي أن الرئيس البشير سيشارك في احتفالات الذكري 39 لجبهة تحرير تيغراي في (مكالي) وأن الوفد يضم عدداً من الوزراء والفريق الفاتح عروة، وأن الطائرة التاريخية التي حمل فيها الرئيس الراحل ملس زيناوي سيتم نقلها لتحتل مكانها في متحف التحرير بالمدينة.
انتقلت بعد الحوار مباشرة إلى مطار الخرطوم حيث شاهدت طائرة سيسنا صغيرة رابضة يعلوها الغبار فألتقطت عدة صور ثم بدأت في كتابة تلك القصة… فتدفقت المعلومات من الشهود والمراقبين ونشرت تقريراً جاء فيه (فالطائرة الصغيرة التي قادها الفريق الفاتح عروة، في العام 1991 – وحمل على متنها مليس صوب أديس أبابا متسلّماً حكمها وقيادتها – هذه الطائرة ستقطع الطريق البري بين السودان وإثيوبيا كيما تستقر في يوم (18) من الشهر الجاري، في متحف المناضلين، تجسيداً لرمزية الدعم والمساندة للثورة الفتية من السودان).
بعد نشر التقرير تلقيت اتصالاً من الفريق الفاتح عروة يطلب مقابلتي في رئاسة شركة زين.. وكانت تلك هي أول مقابلة.. وجدت شخصية متواضعة يغلب عليها الحسم والبعد الإنساني كما وصفه الكثيرون، بعد إشادته بالاهتمام والتقرير بذل بروح أبوية النصح والتشجيع وأنا أشق طريقي في بحر الصحافة المتلاطم. كان حريصاً أن يعرف سر شغفي بالصحافة، وعندما أخبرته أن أبو الصحف (أحمد يوسف هاشم) هو خالي مباشرة قال ضاحكاً: انتقلت إليك جرثومة الصحافة عبر الأجيال.
وجدت من الفريق الفاتح عروة الرعاية والاهتمام والنصح الدائم ، وكنت ضمن جموع أبنائه و أصدقائه الكثر الذين يخصهم بتحليلاته و بمعلومات ليست للنشر ، شهدت جزءاِ من معاركه في الفضاء العام، وأجريت معه عدة مقابلات صحفية في مراحل مختلفة جلها كانت تتعلق بشركة (زين) التي كان يقول إنه لا يقبل المساس بها لأنه مؤتمن على أموال مستثمريها ويراعي مصالح بلاده فيها.
حاولت أن أجري معه حواراً خاصا أنفرد به لصحيفة “اليوم التالي” فرفض معتذرا بكثرة طلبات المقابلات، فزعلت وبعد عدة محاولات فرض شروطه وهو أنه لن يتحدث في السياسة و أن موافقته مشروطة بطبيعة الأسئلة التي سأقدمها.. فاقترحت له حوار بين العام والخاص فوافق واستهوته الأسئلة.. وكان حواراً مميزاً كشف فيه عن خياراته الشخصية في المهنة والزواج وعلاقته بالرئيس الراحل زيناوي وفترة الأمم المتحدة وكشف عن دور بعض المجموعات داخل الحكومة التي لم تكن ترغب في ترشيحه سفيراً للسودان بواشنطون. وقال إن الشعور بالواجب والمهنية وتحري الصدق وروح العدل هي سر نجاحه المهني في كل المواقع التي تقلدها. وللفاتح عروة قصة طريفة مع الممثل الكبير روبرت دي نيرو رواها في المقابلة. كما تحدث عن اقتصاديات صناعة الاتصالات، وسبب فشل الناقل الوطني سودانير. وقال إنه قاد الطائرة بنفسه إلى جوبا لإجلاء موظفي زين تثبيتا لشهامة أهل السودان.
أصاب الحوار بعد نشره نجاحاً مقدراً مما زاد ثقته فيَّ كصحفية ناشئة ومتطلعة وكان يقدر أصحاب العزم والمواهب.
كذلك دفعتني الصدفة المحضة لأكون شاهدة علي المعارك التي خاضها باسم زين في صفقة كنار مع بنك الخرطوم، وأجريت مواجهة بينه ورئيس مجلس إدارة بنك الخرطوم فضل محمد خير، على صفحات الصحف، وكانت تلك هي قضية الساعة. وقال حينها تصريحه المشهور بأنه لا يجوز أخلافياً أن يستخدم البنك أموال عملائه لينافسهم في السوق.. وخاض معركة أكثر ضراوة مع وزير المالية الأسبق بدر الدين محمود وهو يتهم زين بشراء العملة الأجنبية من السوق فكذبه الفاتح علي الملأ وطلب من الرئيس السابق أن يتحرى من الأمر وأنه مستعد للمحاكمة إذا أثبت وزير المالية صحة مزاعمه ، فلما تبين للوزير خطأ أقواله اعتذر بشهادة الرئيس السابق عمر البشير.. وأوضح الفاتح أنه حول ارباح زين لاستثمارات رأسمالية لانعدام النقد الاجنبي.
كان يخوض معاركه بشجاعة وصدق، وكان يقول للأصدقاء من حوله أثناء لوثة إزالة التمكين التي استهدفته أنه لن يركع لابتزازهم ورفض كل العروض والمساومات وطلب أن يقول القضاء كلمته.
كثيراً ما كنت أسأله عن همس الشارع العام عن دوره في إعادة تعيين صلاح قوش فكان لا ينفي ويقول هو الرجل المناسب في هذا الظرف العصيب.. ورفض رغم إلحاح الكثيرين أن يبوح بسر الأيام الأخيرة قبيل انحياز اللجنة الامنية للانتفاضة الشعبية وكان يرد أنه يعرف السر لكنه لن يبوح به ويشير من طرف خفي أن صلاح لم يخن العهد كما أشيع دون أن يفصل في الأمر..
عندما شاهدت تسجيلاته في قناة الجزيرة أدركت أنه يريد أن يقول كلمته للتاريخ، و كان نبيلا في أنه لم يعرض بسيرة أحد أو أن يكشف خصوصية فرد أو أسرة أو أن يعرض أمن بلاده القومي للخطر.
في آخر رسالة معه في نهاية العام الماضي قال إنه يعد باللقاء قريباً إذ كان يخطط بأن يزور مصر للقاء الأصدقاء لكن كف الموت كان أسرع.
أشهد وقد عرفته لمدة ثلاثة عشر عاماً في فضاء الصحافة والعمل العام أنه كان إنساناً استثنائياً كريماً شهماً يتعامل بروح أبوية مع الجميع. وأنه كان شجاعاً ونبيلاً لم يدخر شيئا في الدفاع عن وطنه، وكان وفيا لأصدقائه ومعارفه. كان حريصا أن يحافظ علي اسم والده نظيفا عفيفا بسيرة حسنة و خدمة سامية للوطن وهو يعزي ما أصاب من نجاح للتوفيق من الله سبحانه وتعالي وليس لذكائه وشطارته. كان صادقاً مع نفسه والناس.. التعازي لأسرته وأصدقائه وعارفي فضله.. اللهم اغفر لعبدك الفاتح عروة واجعل الجنة مسكنه ومأواه ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
نقلا عن “المحقق”
