افتتح أحمد الجنايني رئيس اتحاد التشكيليين المصريين معرض الفنان السوداني فيصل تاج السر بأتيليه القاهرة، وجاء المعرض بعنوان (مزاج ساحلي)، فيصل يرسم على أسطح متخيلة عالمه الخاص يستخدم مواد مختلفة بزفرات فرشاة الرسم وخطوط الأقلام الجافة تنسج الروح لجسد اللوحة، نلتقيه في هذا الحوار لإلقاء المزيد من الضوء على تجربته التشكيلية..
القاهرة – محمد إسماعيل
كيف هي البدايات الأولى التي جعلت منك فناناً تشكيلياً؟
دخلت للفن عن طريق دراسة الجيولوجيا والتي أسميها فن الأرض.. كنا نصنع شرائح من الصخور ونفحصها تحت الميكروسكوب فتتكشف لنا عوالم مذهلة وبينما كان زملائي مشغولون بتحديد نوعية المعادن ونسبها في الصخرة كنت اتأمل تلك اللوحات البديعة.
كل شيء في الجيولوجيا كان يقودني نحو الفن.. بعد التخرج درست بالمراسلة قليلاً ولم أكمل لكنني بدأت تعلم الفن ذاتياً.
حدثنا عن مسقط رأسك وتحديداً بورتسودان؟
مسقط رأسي في كرمكول تلك القرية عند منحني النيل، أما بورتسودان فاستقرينا بها نسبة لعمل والدي في الجمارك بعد طواف طويل شمل كل السودان القديم.. توثقت علاقتي بالبحر واتضح لي أنني ذو مزاج بحري.. أفضل التواجد على الساحل أكثر من أي مكان آخر.. أما بورتسودان كمدينة فلا ارتبط بها وجدانياً بشكل خاص.. لدي بورتسودان متخيلة أفضل بكثير من الواقعية وتكاد تكون مثالية.. هذه هي بورتسودان التي أفضل العيش فيها.
أنت مهتم بالتجويد في أعمالك..كيف يرى المتلقي هذه الأعمال؟
أقول دائماً أن الفن غربة داخل غربة..غربة الفن عموماً في بلادنا وعدم تقبل الناس له بسهولة إضافة إلى غربته الثانية متوغلاً داخل التجريب والتجديد ساعياً نحو الحرية.. كلما زادت حريته زادت غربته..
كفنان لا يهمني إطلاقاً تقبل أو عدم تقبل الناس لما أصنع من فن وأنا أعمل.. في الحقيقة أنا نفسي انتفي مفسحاً المجال للعالم الداخلي ليخرج كما شاء… الأمور متعلقة بالمتلقي تأتي بعد ذلك.
معرضك حمل إسم سواحل ما دلالة هذا الإسم؟
معرضي الأخير مزاج ساحلي يعكس حالات مزاجية متعددة عبر أكثر من عشرين عاما.. المزاج الساحلي هو ذلك المزيج المدهش والفاتن لحيوات تصارع للبقاء وأزمنة متداعية بلا سند غير اللون.. مازلت أسير في شوارع المدينة وسط الفوضى كالمسحور.. لقد أكسبني ذلك عادة التأمل وحساسية حادة كالسكين.. كل ذلك انعكس على أعمالي.
لكل فنان قضية معينة ورسالة إنسانية كيف ترجمت قضية الحرب الدائرة في الوطن عبر الألوان ؟
الحرب شكلت لنا كفنانين صدمة عنيفة وهزيمة نكراء لكل مشاريعنا الجمالية، انهزمنا لكننا لم نستسلم.. اشتغلنا منذ البداية على امتصاص صدمة الحرب من خلال إقامة الورش والمعارض وقد قاد كل هذا الصديق العزيز الفنان عصام عبدالحفيظ واستمر كل ذلك بعد خروجه إلى كينيا.. شارك عدد كبير من الفنانين النازحين من الخرطوم في المعارض والورش والندوات، وأعتقد نجحنا إلى حد ما في إقامة منصة بديلة لما تم تدميره في العاصمة، بالطبع خيمت أجواء الحرب على أعمالنا في تلك الفترة، وأذكر أنني كنت أسكب الكثير من الدم على الأسطح المخدوشة والمرقعة ثم أكشط معظمه رحمة بالعين.. كما تلقيت مساعدة متوقعة من الأسود والأبيض وامتزاجهما..عادت الألوان إلى اللوحة بعد أن هدأت الهواجس قليلاً.. هنالك لا مبالاة محيرة تسود إزاء الحرب كما أن الحياة تفرض سطوتها في النهاية.
لكل فنان مدرسة ماهي المدرسة التي لها تأثير بالغ في أسلوب عملك؟
إذا وجدت مدرسة فنية إسمها الحرية فهي التي تأثرت بها… باسم الحرية أمارس الفن، لاتوجد قيود أو حدود إطلاقاً لما يمكن أن يحدث في اللوحة ولا يمكن وصف المتعة الناتجة عن ذلك.. حقاً توجد حرية.. إنها داخل هذا العالم السحري المعلق على الحائط وجزء كبير من عذاب الفنان في ألا يتمكن من جعل المتلقي يتذوق طعم تلك الحرية.
هذا المعرض الذي يحمل مزاج ساحلي هل هو رسالة لتقديم رؤية عن الوطن؟
-هذا هو المعرض الثاني لي بالقاهرة، الأول كان في 2005 وعرضت هنا أعمال جلبتها معي من السودان.. كنت حريصاً على تقديم نفسي هنا.. أنا تقريباً غير معروف هنا إلا لدى قلة من الأصدقاء الفنانين والفنانات رغم ترددي الكثير على مصر منذ الدراسة.. شهادتي في الجيولوجيا من جامعة أسيوط. إذا كنت مطالب بتبني رسالة ستتجاوز ممارستي الفنية تلك الرسالة.. ستتجاوز الوطن أو أي مفاهيم أخرى أتبناها.. أنا معني في المقام الأول بكشف عالمي الداخلي لي أولاً ثم للآخرين.. إنها رسالة شخصية كما ترى لكنها تتميز بالصدق إذا كان لذلك أي قيمة.. قد يظهر الوطن من خلال هذا الكشف بصورة غير متوقعة وغير مباشرة بالطبع.. هذا يحدث دائماً.
ماهى نظرتك وتفكيرك عند الرسم؟
-أرسم في كل الأوقات.. أرسم وأنا أحلم.. لا أفكر في أي شيء وأنا أرسم.. يجب أن أغيب ليحضر الفنان المقيم بالداخل ويمارس عمله.. الرسم عندي تحول لعملية لا إرادية.. شيء يشبه التنفس.
ماهو الإحساس أو الشعور الذي يسيطر عليك عند الرسم؟ أم ترسم في جميع الأوقات؟
في الحقيقة أمارس الفن منذ سنوات في جو خانق من الندرة لظروف البلد المعروفة، لذلك حولت كل ما يمكنني تحويله لوسيط فني.. معرضي الأخير في بورتسودان حياة أخرى، كونته من قطع كارتون ملقاة في الشارع واسكتشات قديمة تطورت إلى لوحات بعد أن ترسبت عليها طبقات من اللون.. كل شيء سينفع إذا أمسك الخيال بتلابيبه
لكل فنان رسالة يؤمن بها وقضية يناضل من أجلها.
مارسالتك وما قضيتك؟
-قضيتي الأساسية هي الحرية.. يؤلمني أن هذا العالم يسفر عن قسوته بكل هذا التبجح واللامبالاة.. لقد أصبحت الحكومة موظفة لصالح القسوة والقمع والاضطهاد واللامبالاة.. أنا اقرأ الحيرة والألم وعدم الفهم في العيون وأتساءل متى ينتهي هذا الإذلال؟
ماذا عن المعارض الجماعية ؟
نعم معارضنا الجماعية في بورتسودان لم تتوقف منذ يوليو 2023 وآخر معرض كان معرض أجيال في نادي الجمارك، المعرض المهم بينها هو معرض ممر آمن والذي أقمناه في ممر العمارة أمام مكتبي لغياب صالة للعرض.
وماذا عن أتيلية القاهرة ؟
أتيلية القاهرة جاء باقتراح من صديقة كاتبة ووافقت بدون تفكير، كنت بحاجة للبدء بشيء ما ومن أي مكان.