عبد الله علي إبراهيم
أنهت قوات “الدعم السريع” خدمات يوسف عزت الماهري كمستشار لزعيمها محمد حمدان دقلو. وهو، إن تجاوزنا ما رشح من أسباب مثل خلافه مع عبدالرحيم دقلو، القائد الثاني لـ”الدعم السريع”، ضحية العوالم “المانوية” للسياسة المدنية السودانية. فكان عزت نشر تغريدة قال فيها إنه إذا جاز لنا قبول واجهات للحركة الإسلامية في مؤتمر القاهرة (السادس من يوليو الجاري) الذي دعت إليه مصر لتصلح بين القوى المدنية السودانية، فما المانع من الحديث المباشر مع الحركة الإسلامية نفسها. فاجترأ عزت هنا على تلك العوالم التي وصفتها بـ”المانوية”. والمانوية دين منسوب للفارسي مان (216 ميلادية). ودخلت العبارة علم السياسة من باب تصور ذلك الدين للعالم القائم على صراع أزلي بين الخير والشر إلى يوم يبعثون. واتُفق لعلم السياسة أنه إنما يبسّط السياسة من رآها صراعاً بين الخير والشر ليضل عن معناها. ولذا وصف زبيجينو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر، الرئيس بوش الإبن بأنه مصاب بـ”بانوراما مانوية” لأنه اعتقد بأنه في طليعة قوى الخير ضد “محور الشر”. وعليه فنهاية السياسي تقع لدى صدور عبارة عنه تخلط فضاءً مانوياً بفضاء آخر فعل عزت الذي لم يرَ بأساً من الجلوس إلى حزب المؤتمر الوطني والإسلاميين وأحلافهم. فالأخيرون في عوالم المانوية من المستثنيين بـ”إلا”. فتقول تقدم مثلاً إنهم سيجلسون للنقاش حول مستقبل السودان مع الجميع “ما عدا” المؤتمر الوطني، أي الفلول.
البانوراما المانوية
وعوالم السياسة السودانية المدنية مانوية. وكشفت الاجتماعات المتلاحقة في القاهرة وأديس أبابا لجمع الشمل السوداني عن هذه البانوراما المانوية. فاعتذرت تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) من حضور اجتماع الاتحاد الأفريقي (10 يوليو) بعد أن تأكدت، بحسب قولها، مخاوفها من غياب الشفافية حول تصميم الاجتماع الذي تسيطر عليه عناصر النظام السابق وواجهاته وقوى الحرب. وهي عندهم قوى الإسلاميين، الفلول. واعتذر من حضور هذه الاجتماعات أيضاً “تحالف القوى المدنية لشرق السودان” لأنها ضمت “أشخاصاً منضوين في الحرب مباشرة ويجاهرون بالتحريض عليها”. وامتنعت حركة جيش تحرير السودان (عبدالواحد محمد نور) عن حضور اجتماعات الاتحاد الأفريقي لأنه لم يوفر لها قائمة المشاركين بالحوار في تلك الاجتماعات، فالحركة، بحسب قولها، “لن تجلس مع منسوبي حزب المؤتمر الوطني وواجهاته لأي سبب من الأسباب”. وتأتي اجتماعات الاتحاد الأفريقي بعد ثلاثة أيام من انعقاد مؤتمر القاهرة للقوى السياسية والمدنية السودانية (6 يوليو) لترفض القوى السياسية والمدنية (الحرية والتغيير والكتلة الديمقراطية) لا مخرجاته فحسب، بل حتى الجلوس مع “تقدم” في صالة واحدة لأنها لم تدِن انتهاكات “الدعم السريع”.
اعتراضات الشيوعي
أما الحزب الشيوعي، فأمة لوحده في “بانوراما المانوية”. فالشر عنده يعمّ. فلا يقصره على الفلول فحسب، بل على “تقدم” أيضاً. فاعتذر من حضور الاجتماعين في القاهرة وأديس أبابا. وقال في خطاب اعتذاره إن الدعوة إلى الاجتماع خلطت بين القوى السياسية والمدنية. فساوت بين تلك التي “قاومت وناضلت ضد نظام الإنقاذ محققةً الثورة وحراستها من الأعادي، حرصاً على الوصول إلى غايتها، وبين القوى التي ناهضت الثورة وعملت على إجهاضها، ممثلة بفلول النظام والقوى السياسية المدنية التي تحالفت ودعمت وشاركت نظام الإنقاذ المدحور في السلطة إلى حين سقوطه في الـ11 من أبريل 2019”. ويريد الشيوعي بالقوى التي تعاملت مع نظام الإنقاذ حتى سقوطه جماعة “تقدم”، ويسميها “قوى الهبوط الناعم” لأنها، وبدفع من أميركا، تداخلت مع “الإنقاذ” لاستنقاذها من السقوط بريح ثورة كانت تتجمع ضدها. وقال “الشيوعي” إنه امتنع عن حضور لقاء أديس أبابا لأن من رتبوا له قرروا “ألا يستثني” أحداً، أي “إشراك القوى المعادية للثورة بما يعني المؤتمر الوطني”. ودون اشتراك المؤتمر الوطني مع الحزب الشيوعي في اجتماع خرط القتاد.
اجتماعات غير مباشرة
عُقدت في نهاية الأسبوع الماضي اجتماعات غير مباشرة بين ممثلي الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” ركزت على الجانب الإنساني ومساعي وقف إطلاق النار للغرض برعاية الأمم المتحدة في جنيف. وهكذا التقى الطرفان المتحاربان للتوافق حول مسألة من أخص مسائل القوى المدنية وأسبقيتها في حرب زعزعت السودانيين حتى وصفتهم مجلة “أتر” بأنهم مثل “كرة من اللهب تتدحرج صوب جميع الاتجاهات”. ويستغرب المرء ألا يكون العون الإنساني شاغلاً لهذه القوى المدنية تستغشي عنه في كهوفها المانوية. فإن طرأ الشاغل كان لفظاً بلا بركة، أو مادة للاحتجاج. فلا يأتي ذكر هذا العون على لسان الإسلاميين بالمرة. فهم في شغل عنه باستعراض بطولة شبابهم في ميدان القتال، أو بالوعيد لرموز “تقدم” ليوم الثأر منهم لإزاحتهم من الحكم. ويذكر الشيوعيون العون الإنساني ليكتفوا بالاحتجاج على شح إغاثة مؤسسات الأمم المتحدة وإعاناتها “وعدم التزام من الدول المانحة الإيفاء بما تعلنه من مساهمات”.
وربما كانت “تقدم” الأكثر احتفالاً بأمر العون الإنساني إلا أنها لم تنجح بعد في صناعة أجسام حولها تُعنى بالعون الإنساني فيما لا بد منه في الحرب. ويُستغرب هذا من جماعة قررت باكراً في أغسطس (آب) 2023 ضرورة “بناء شبكة وطنية لإيصال المساعدات الإنسانية وحث الأسرة الدولية على دعم وإسناد المجتمع المدني السوداني العامل في المجال الإنساني من أجل مساعدته في الاستجابة الفاعلة للكارثة الإنسانية الماحقة”. وكلفت قيادياً فيها بالإسم منسقاً لآلية سمتها “آلية العمل الإنساني”. ولم تعرض هذه الآلية على مؤتمر “تقدم” التأسيسي بأديس أبابا في مايو الماضي تقريراً بأي إنجاز في هذه الجبهة. وتفاءل الناس بخروج جماعة تحمل اسم “أطباء تقدم” في أعقاب المؤتمر لتسعف اللاجئين السودانيين في إثيوبيا. وليس واضحاً إن كانت هذه الجماعة جسماً استقر في “تقدم” أو أنه كان لمجرد إشهارها للناس.
ومما يُستغرب له أن تغيب هذه الجماعات السياسية من ميدان التضامن الإنساني وهو ميدان ليست للسودانيين موهبة استثنائية فيه فحسب، بل هو عنوان وطني أيضاً يباهون به. ويعود هذا التقليد بصورة حصرية ربما للصوفية السودانية، التعبير الإسلامي الأعرق والأوسع في السودان. فلن تجد منشأة صوفية فيه خلت من تكية (وجمعها تكايا) وهي مطبخ يومي ساهر لتقديم الطعام إلى الغاشي والماشي بإشراف “أم الفقرا” وهي زوجة الشيخ. وأكثر تمويله من أهل السعة من محبي الشيخ. واشتهرت في أتون هذه الحرب تكية الشيخ الأمين عمر الأمين القادري بحي بيت المال في مدينة أم درمان القديمة. فظل يطعم الناس من حوله والحي محتل بـ”الدعم السريع” حتى تحريره من قبضتهم بواسطة الجيش ولا يزال. بل زاد الشيخ على ذلك بتقديم الخدمات العلاجية للمرضى ومصابي الحرب. ومؤكد أنه ليس إلا تكية واحدة من تكايا الصالحين في أنحاء البلد.
وخرجت المؤسسات الحديثة للخدمة الإنسانية أيضاً. ومن هذه منظمة “صدقات الخيرية” التي فتحت في الرابع من يوليو الجاري مطبخها الخيري لتوزيع الوجبات على النازحين والمتضررين من الحرب، في 14 مركز إيواء بمدينة الأبيض في ولاية شمال كردفان. كما افتُتحت هذه المطابخ بالفاشر في ولاية شمال دارفور بالتعاون مع جمعية “نبض الحوادث” الخيرية. وامتد نشاط صدقات للتعليم والصحة والإمداد بالماء وإصحاح البيئة. فافتتحت في الخامس من يوليو الجاري مراكز للتعليم الإلكتروني بالولاية الشمالية. وتكفلت بتشغيل استراحة مرضى الكلى للأطفال والكبار بـمدينة عطبرة في ولاية نهر النيل. وفي ميدان الإصحاح البيئي وفرت في الثاني من يوليو، وبعون من “يونيسيف”، الإمداد المائي بالصهاريج لــ11 مركزاً صحياً للنازحين في ولاية كسلا. ووزعت لحوم الأضاحي في 12 ولاية بدعم من فروعها في كندا وأميركا وإنجلترا وفاعلي الخير. كما خرجت رابطة الأطباء السودانيين (سابا) بالولايات المتحدة لتقديم الخدمات الصحية إلى المتضررين من الحرب. فقدمت الضروري منها في أوائل يوليو للوافدين من سنار إلى مناطق في النيل الأبيض شملت الكشف الطبي والفحوص المعملية والأدوية المجانية. وحافظت رغم الحرب على تشغيل مستشفى البلك التخصصي في أم درمان بالتعاون مع “يونيسيف” وشمل علاج سوء التغذية للأطفال.
غياب الحركة السياسية من ميدان هذه الخدمة الإنسانية الطوعية تعليق سيئ على القوى المدنية وأحزابها. وهي مظهر آخر من مظاهر انفصام العرى بينها والجمهور العريض في حين تتلمظ ثأراتها التاريخية في كهوفها المانوية. فقال الروائي النيجيري شنو آشيبي عن مثل صفوتنا إن عليها رم الأواصر الروحية الحيوية التي انصرمت بينها وأهلها. وبدا أن الدعوة الحق للقوى المدنية من العالم الخارجي هي أن تتصالح لتشرع في الخدمة الإنسانية قبل دعوتها التي تكررت بلا جدوى إلى التصالح في التفكير معاً في إسعاف السودان من وهدته. فدخول الجماعات السياسية بقواعدها في خدمة المدد الإنساني إنقاذ لها من العزلة التي ضربتها طوعاً على نفسها حتى صارت “الحزبية” لعنة. وربما انتفعت هذه الأحزاب أثناء هذه الخدمة من عبارة اشتهرت عن صوفي من أهل التكايا. قيل إنه قال “بلا عجيني منو البجيني”، أي قبولي عند الناس هو من بذلي لهم.