فيما أرى
عادل الباز
1
لابد أنهم باعوهما رخيصاً لأنهم لا يعرفونهما، ربما هما مجرد أصنام من حجارة كان يعبدها (الكِيزان) في غابر الأزمان.
ما الموضوع؟، الموضوع يا سادتي كما جاء في الأنباء وكشفته الأقمار الصناعية أن الجنجويد نهبوا المتحف القومي بالخرطوم ودمروه وحملوا مقتنياته بالدفارات وعرضوها للبيع؟.
وما هو المتحف القومي وماذا يُمثل؟ تقول الويكيبيديا إنه ( أكبر المتاحف بالسودان، أسس أول مرة في كلية الآداب في العام 1904م وأفتتح بمقره الحالي بشارع النيل عام 1971م، زاره عدد كبير من كبار الشخصيات من مختلف أنحاء العالم، ويحتوي على مقتنيات أثرية من مختلف أنحاء السودان يمتد تاريخها إلى عصور ما قبل التاريخ وحتى فترة الممالك الإسلامية، وتشتمل الصالات الداخلية للمتحف على العديد من المقتنيات الحجرية).
والذي قال عنه السفير مبارك محجوب (إن المتحف القومي السوداني، والذي شيد في العام 1955، يحتضن العديد من آثار الحضارات السودانية العظيمة القديمة، والنوبية والكوشية وعلى حضارة كرمة على سبيل المثال لا الحصر، ازدهرت في الحقبة التاريخية التي تمتد من 2500 قبل الميلاد إلى 1500 قبل الميلاد في بلاد النوبة القديمة. علاوة على ذلك، يضم هذا المتحف هياكل عظمية ومومياوات لبعض ملوك تلك الحقبة التاريخية الراسخة في القدم. كما يحتضن المتحف أهم القطع التاريخية من تحف وتماثيل ومجموعات أثرية ذات قيمة وطنية وتاريخية ومادية أبدية).
2
سارع الجنجويد في هجماتهم البريرية بشفشفة المقتنيات الذهبية بالمتحف القومي في بداية غزوهم المتحف فلم يتركوا ذهباً ولا فضة ولا عقود مطرزة عاشت لآلاف السنين تحت الأرض وضمها المتحف لعشرات السنوات كشاهد على حضارة قديمة هي مصدر فخرنا وعزنا، ثم ذهبوا للتوابيت المتراصة وبداخلها المومياوات الموجودة بالمتحف فصوروها وأعلنوا أنهم عثروا على الجثث التي قتلها (الكِيزان) وأخفوها بالمتحف القومي بالخرطوم!!. وكان ذلك أهم إنجاز لهم في الأيام الأولى لحربهم المشئومة على الشعب السوداني تاريخاً وحاضراً.
بعد أن دمروا ونهبوا ما نهبوا، جاؤوا (بالدفارات) فحملوا أهم المجسمات ومن ضمنها مجسم تهراقا خامس ملوك السودان والذي شكل إلى جانب أبيه بعانخي أبرز حكام مملكة كوش، كوش التي تعتبر إحدى أقدم الحضارات العالمية، وامتدت فترة حكم تهراقا بين عامي 690 إلى 664 قبل الميلاد، تصور أنهم حملوه في دفار ومعه أبيه صوب جنوب السودان. مسكين تهراقا كان حاكماً عظيماً إلى أن جاء في آخر الزمان (همج رمت بهم الصحاري جنة المأوى) ليذيقوه مثل هذه المذلة، ليشاهده العالم كله محمولاً على دفار قديم وهو الذي كان يُحمل على العروش المذهبة، وليبيعوه رخيصاً في أسواق الإنترنت.!!
3
الآن انطلقت عدد من الدعوات، لإنقاذ تاريخ السودان من بين أيادي الجنجويد، فخاطب مركز بحوث الثقافة والتاريخ والحضارة السودانية الرئيس كير وحكومته وشعب جنوب السودان وطلبا المعاونة في تتبع اللصوص الذين دخلوا إلى جنوب السودان وفق تتبع الأقمار الصناعية مسار الشاحنات، والقبض عليهم ورد الآثار المنهوبة التي لا تقدر بثمن.
كما بعث السفير مبارك محجوب نداء استغاثة عاجلة للأمين العام للأمم المتحدة، السيد أنطونيو غوتيريس، والمديرة العامة لليونسكو السيدة أندري أزولاي والسيد أيمن بدري مدير اليونسكو بالخرطوم، مطالباً بالتدخل للحفاظ على هذه الآثار السودانية وحمايتها من عمليات السرقة والتدمير، باتخاذ جميع التحوطات الفورية والضرورية لوقف هذه المسروقات واستعادتها. إن الحاجة ماسة لتدخل دولي سريع لدرء خسائر مأساوية فادحة، وأي تقاعس في هذا الصدد، يهدد بأن تذهب فيه قرون من التاريخ والتراث الثقافي العالمي لبلد عظيم مثل السودان، أدراج الرياح ولا سيما أن اتفاقية لاهاي لعام 1954م المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة نشوب نزاعات مسلحة، تنص على وجوب الامتناع عن استهداف الممتلكات الثقافية أو استخدامها لأغراض عسكرية. علاوة على ذلك، فإن لدى اليونسكو مساهمات واتفاقيات تاريخية كبيرة لمساعدة السودان في الحفاظ على تراثه وحضارته.
4
طبعا ليس للجنجويد معرفة أو ثقافة أو ضمير وطني يمكن أن نناشدهم من خلاله للحفاظ على تراثنا الذي لا يعنيهم، ولكن نتوسم خيراً في مجموعة محدوداً في (تقدم) ونطالبهم بمناشدة حليفهم زعيم الجنجويد أن يأخذ المال الحرام الذي نهبه أعضاء عصابته من ثرواتنا وبنوكنا ويرجع لنا تاريخنا وذاكرتنا، كما أنه لابد من تضامن واسع للمثقفين السودانيين بمختلف تياراتهم لأجل مناشدة العالم ومنظماته للضغط على الجنجويد ليكفوا أيديهم (تبت أيديهم وتب) عن تراثنا، إذا عجز العالم عن وقف همجية الجنجويد في القتل والابادة والنهب والاغتصاب فليس أقل أن يتضامن معنا لأجل الحفاظ على آثارنا التي هي إرث عالمي وقف العالم كله على عظمته، حين أقامت الهيئة العامة للآثار العديد من المعارض بالعواصم الأوروبية عام 1991م، أشهرها معرض (ممالك على النيل) الذي طاف على 7 دول أوروبية ومعرض كنوز من السودان (المتحف البريطاني بلندن ومعرض درب الأربعين (متحف الماريمو ببروكسل بلجيكا 2007)، معرض الحضارة المروية متحف اللوفر باريس) و(معرض اكتشاف النقعة ألمانيا 2011)، و(معرض الاكتشافات الأثرية دولة التشيك 2014). من خلال تلك المعارض عرف العالم عظمة وقيمة الحضارة السودانية.
5
أخيراً لابد أن تقوم الدولة بدورها في مخاطبة كل المؤسسات الثقافية العالمية للضغط لأجل إرجاع كل ما نهبه الجنجويد من مقتنياتها مع تحذير عالمي لكل سماسرة المقتنيات، بأن ذلك يعرضهم للمساءلة القانونية.
ملحوظة: لي مقولة قديمة قلتها للصحفيين الذين كانوا يجرون تحقيقاً لمجلة سنابل (شمس الدين وأبو إدريس واليسع وصحبهم) حول سرقة الآثار في تسعينات القرن الماضى، قلت لهم بهذه الطريقة باطن الأرض خير لآثارنا من ظاهرها.!! وقد كان.