بكت على كتفي

سلمى حمد
أدمى قلبي ذلك المشهد. لم أشعر — وأنا أنظر إليها — أنها تبكي على كتف «البرهان»، بل شعرت أنها تبكي على كتفي أنا، وعلى كتف كل سوداني حرّ لم يبع ضميره وإنسانيته بحفنة مال، ولم ينحاز لعنصريةٍ منتنة، ولم تطمس بصيرته الأطماع والأحقاد . بكت على كتف الإنسانية والضمير الحي، و بكت قبل كل ذلك على كتف السودان: وطنها، أرضها، سماءها، وأهلها.
بكت أوجاع اليتامى والثكالى والأرامل، . بكت خذلان العالم الذي صمت على حصارهم وتجويعهم لسنوات، وظلّ يراقب (دون حراك) شجاعتهم وجسارتهم في صد العدوان.
عدوانٌ ظالم باغي. لص يطمع في نهب خيرات أرض السودان وثروات باطنها. عدوانٌ مستكبر يسعى إلى تشريد أهل السودان واستبدالهم بمرتزقةٍ قساةٍ جُهّالٍ يخوضون حروبه، فيبني بوحشيتهم و دمائهم انتصاراته وأمجاداه المتوهمة. أمجادٌ لم تكن له يوماً؛ فبرغم الثراء المستجد سيظل هذا المعتدي جلفاً لم يتعلم من الحضارة إلا قشورها، ينطبق عليه وصف الله سبحانه وتعالى (الأعراب أشد كفرا ونفاقاُ وأجدر أن لايعلموا حدود الله ) . .
هو ليس ابن مجد الإسلام في الحجاز وأرض الحرمين، ولا سليل الخلافة في بغداد ودمشق، ولا وريث القيروان وفاس، ولا هو من أحفاد الفراعنة في شمال وجنوب وادي النيل، ولا هو من ورثة بابل وآشور ولا هو حفيد أمجاد سبأ وفارس أو سليل عظمة كوش مهد الحضارات. هو، باختصار، ابن أُجلافٍ عاشوا في ظلمات لم تعرف الحضارة ولم ترث العلم والحكمة، ولا تملك إرثاً أقيم من جلد بعير . عاشوا في غياهب الجهل و الوحشية يقتل الابن فيهم أخاه وأباه وعمه لأجل ناقه عجفاء ؛ لم يعرفوا من الإسلام إلا اسمه، لم يجدوا في بلاقعهم اليباب تلك من يحدثهم عن حرمة الدم وأثم البغي وعن اسم الله الرحمن .
ظلّوا في دياجير جهلهم واقتتالهم ، حتى اكتُشف لهم الانجليز النفط . فتراكمت ثرواتهم و تعالت أبراجهم لكنهم عجزوا عن بناء حضارة.
فالحضارة تحتاج لروح . وأموال أبو ظبي تشترى القشور وتستأجر القتله لكنها تعجز عن شراء روح أو صنع حضارة.
بكت سيدة الفاشر على الأبطال الميامين الذين لم يَجبنوا ولم ينهزموا، وكبدوا المليشيا خسائر كبرى في الرجال والعتاد في كل هجوم على مدينتهم المكلومة . فلجأ شيطان الإمارات إلى ضربهم بغاز الأعصاب وقصفهم بـ(الطيران الأجنبي) .
لم يدخل الانجاس إلى الفاشر منتصرين ؛ بل دخلوها وغبن الهزائم المتتالية يملأ قلوبهم غضبا و غلا و قيحاً نفثوه في صدور الأبرياء: شيوخاً ونساءً وأطفالاً. لم يرحموا أحداً، ولم يشفقوا على ضعيفٍ أو صغير.
بكت سيدة الفاشر على من استُشهِدوا عزّاً وفخراً، وعلى من قُتلوا جوعاً وقهراً، وعلى من ذبحوهم سفهاً وسط ضحكاتِ الوحوش وتوثيق الكاميرات؛ بكت على مدنيين عزل فروا مذعورين بعد أن أمروهم بالركض ثم طاردوهم بالعربات وأطلقوا عليهم الرصاص ، وبكت على من دُهسوا بالعربات أو شُنِقوا على مواسير المدافع و جذوع الأشجار، لمجرّد أن القاتل ملّ الرصاص وأراد أن يستمتع بطرقٍ جديدةٍ للقتل. بكت على كرامتهم المهدرة ولصوص الميليشيا يفتشون ملابسَهن وأجسادهن باحثين عن مالٍ أو ذهبٍ أو هاتف — أو لمجرد الإذلالٍ .
بكت على رعبهن وهن يخرجن بأطفالهن عبر الفيافي والوديان بلا زادٍ ولا عتاد إلا الخوف والدموع ووعثاء الطريق. بكت كلّ هذا عندما وجدت كتفاً تبكي عليه.
نساء الفاشر يستنجدن اليوم: يطلبن النصرَ من كلِّ ذي نخوة وقدرة، ، وإن لم ننصر نساء الفاشر اليوم، فلن ننصر نساء الخرطوم ومروي وكوستي ودنقلا وعطبرة وبورتسودان غداً.
فلنتعاهد — جيشاً وشعباً، قيادةً وقاعدةً — على أن نساء الفاشر سيعدن إلى بيوتهن معزَّزاتٍ مكرماتٍ منتصرات، وأن القتلة سيدفعون الثمن، وأننا لن نسمح بتكريم من سفكوا دماءنا وهتكوا أعراضنا كشركاءٍ في حكم الوطن. وأننا لن نعمدَ شيطان الإمارات سِيداً علينا، و أننا سنحاسب كل خائنٍ وعميلٍ ومتواطئٍ مع محور الشرّ وأعوانه.



