بعد عام على الحرب… اقتصاد السودان… خسائر مدمرة
بعد عام على الحرب..
اقتصاد السودان.. خسائر مدمرة
رحاب عبد الله – ناهد أوشي
بعد مرور عام على الحرب المدمرة التي اندلعت شرارتها في 15 أبريل 2023 بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع، يشهد الاقتصاد والحياة المعيشية في البلاد انهياراً تاماً وأوضاعاً كارثية، بعد أن فقدت خزينة الدولة أكثر من 80% من إيراداتها في أعقاب تراجع صادر الذهب بصورة كبيرة، وانخفاض المعدلات الاقتصادية إلى أدنى مستوياتها، فالجنيه السوداني يتهاوى يومياً وتنهار قيمته أمام العملات الأجنبية بعد أن بلغ سعر الدولار الأمريكي 1430 جنيها مع توقعات بالمزيد من الارتفاع في الأيام القادمة، وتبع ذلك ارتفاع أسعار السلع الأساسية بما في ذلك المواد الغذائية والوقود، في وقت أكد فيه خبراء تزايد معدلات التضخم، وتوقع البنك الدولي انخفاض معدل النمو الاقتصادي إلى سالب (18,3%).
دمار ممنهج
وأدت الحرب لدمار ممنهج للبنيات الأساسية والبنى التحتية، من مصانع ومؤسسات إنتاجية ومشاريع زراعية من بينها أكبر مشروع زراعي في السودان (مشروع الجزيرة) بعد استباحته من قبل مليشيا الدعم السريع، مع تدمير القطاع المصرفي وهروب الاستثمار المحلي والأجنبي، وتضرر القطاع الحيواني، فضلاً عن تضرر المواطن والموظف وأصحاب المهن الهامشية وتدهور أوضاعهم بعد أن فقدوا مدخراتهم ومنازلهم التي دمرت ونهبت بسبب الحرب.
ويتضح جلياً تكبد الاقتصاد السوداني خسائر ضخمة، وفقدان معظم الأسر مصدر دخلها لترتفع معدلات الفقر إلى أكثر من 65%، وقُدرت الخسائر الاقتصادية المباشرة للحرب بأكثر من 100 مليار دولار بحسب بيانات غير رسمية، بينما توقع وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم أن تبلغ خسائر الحرب 200 مليار دولار.
خسائر القطاع المصرفي
ولعل أبرز القطاعات التي تأثرت بالحرب هو القطاع المصرفي إذ تعرض إلى دمار واضح، فعملية السرقة والنهب والحرق طالت أكثر من 100 فرع للبنوك وهي 37 بنكا منها حكومية وخاصة، وتسببت الحرب في توقف 70% من البنوك في مناطق القتال بحسب بنك السودان المركزي، فيما تشير معلومات مؤكدة أن نسبة الأموال التي نهبت من البنوك تقدر بنحو 38% داخل ولاية الخرطوم.
وحذر مراقبون من تعرض بعض البنوك إلى الإفلاس أو التصفية، وقال الخبير الاقتصادي بروفيسور إبراهيم أونور إن من بين ثلاثة مصارف هنالك مصرفين معرضة للإفلاس.
وقطع المدير العام للوكالة الوطنية لتمويل وتأمين الصادرات أحمد بابكر حمور بأن المصارف تواجه صعوبات شتى منها فقدانها للأموال الكاش المنهوبة ومنها إتلاف الأصول وتوقف تحصيل المديونية على العملاء بالإضافة إلى توقف التمويل الجديد، وأكد في حديثه لـ( الاحداث) أن كل ذلك يقود إلى حد كبير إلى خسائر مالية على المصارف السودانية بلا استثناء، وتوقع أن تشهد الحسابات الختامية للبنوك للعام 2023 عجزاً كبيراً لمعظم المصارف، وتوقع إذا استمر هذا الوضع أن تفشل بعض المصارف في الاستمرار وربما يقود هذا إلى التصفية أو الدمج.
وأكد أحمد حمور أن صندوق ضمان الودائع يمكن أن يلعب دورا في التقليل من هذا الاحتمال إلا إذا كان حجم وعدد المصارف التي تحتاج إلى الدعم كبيرة بدرجة لا يقوى الصندوق على تقديم العون بالقدر الكافي.
خسائر قطاع النفط
قال وزير النفط السوداني، محي الدين نعيم محمد سعيد، إن البلاد فقدت حوالي 210 آلاف برميل من الخام نتيجة تخريب مستودع الخام بمصفاة الخرطوم وتدمير منشآت أخرى منها مستودعي البنزين والغاز التي كانت مليئة بالمنتجات البترولية.
وأشار الوزير، في مقابلة مع (وكالة السودان للأنباء)، إلى أن تدمير مستودعات شركات التوزيع الموجودة في مركز التحكم بالجيلي أدى إلى فقدان كميات مقدرة من المنتجات النفطية لكافة الشركات، لكنه لفت إلى أن جسم المصفاة لم يُصب بأذى.
وقدر الوزير حجم الدمار الذي لحق بقطاع الطاقة والنفط بـ 5 مليارات دولار، موضحاً أن الأضرار شملت المنشآت النفطية ومحطات الكهرباء وفقدان الخام النفطي والمنتجات البترولية المحفوظة في المستودعات الاستراتيجية من إنتاج مصفاة الخرطوم، غير أنه أكد توفر الوقود لكل القطاعات ويتم استيراده من الخارج.
انهيار قطاع اللحوم
أكد وكيل وزارة الثروة الحيوانية والسمكية د.حسن التوم فقدان كثير من مقومات القطاع، حيث تراجعت حماية القطيع القومي بنسبة 50% عما كانت عليه قبل الحرب بسبب خروج المعمل المركزي لإنتاج اللقاحات البيطرية من الخدمة منذ الأسبوع الأول للحرب وسرقة محتوياته الإنتاجية مما أثر سلباً على حماية القطيع، بالإضافة إلى تأثر البنيات التحتية للوزارة بالنهب والسرقات وتحطيم الأثاثات والمباني وسرقة 60% من أسطول العربات العاملة في الوزارة، وانهيار قطاع الدواجن تماماً لأن 85% من إنتاج الدواجن في ولايتي الخرطوم والجزيرة وهما ولايتي حرب. وأردف “لذلك انتهى هذا القطاع ويحتاج إلى إعادة تأهيل من الصفر”، مشيراً إلى تأثر المحاجر البيطرية خاصة محاجر ولايات كردفان بسبب عدم الأمان وتوقف العمليات الفنية تماماً، وزيادة الأعباء على المحاجر الآمنة في كسلا والقضارف وبورتسودان فقط، فضلاً عن انهيار قطاع اللحوم تماماً بنسبة 95% لأن معظم مسالخ الصادر تقع في ولاية الخرطوم، بجانب انهيار قطاع الألبان في ولاية الخرطوم، ونفوق أعداد كبيرة من الحيوانات وفقدان معامل البحوث وبيانات مهمة مخزنة لأغراض البحوث العلمية خاصة الجينات الوراثية، مع فقدان سلالات نادرة من الحيوانات خاصة الخيول والجمال والحيوانات البرية والطيور النادرة.
وأدى النزاع في السودان لشلل القطاع الزراعي، حيث انخفضت المساحة المزروعة في البلاد بنسبة 60% عن السنوات السابقة وتقليص المساحات وعجز المزارعين عن ممارسة النشاط.
توقف منشآت صناعية
خرجت أكثر من 400 منشأة تعمل في مجال الصناعات الغذائية والدوائية ومختلف المجالات الأخرى في العاصمة السودانية الخرطوم عن الخدمة تماماً بعد التخريب الكبير الذي تعرضت له، ووفقاً لعبدالرحمن عباس، الأمين العام السابق لاتحاد الغرف الصناعية، فإن حجم الدمار الذي تتعرض له المصانع لم يكن يخطر على بال أحد، مشيراً إلى أن عدد من رجال الأعمال فقدوا مصانع عملاقة لهم، استغرق تأسيسها عشرات السنين وصرفت عليها أموال ضخمة للغاية.
وكشف الأمين العام السابق لاتحاد الغرف الصناعية السودانية أشرف صلاح عن عدم وجود إحصائية دقيقة حتى الآن عن خسائر القطاع الصناعي جراء حرب المليشيا، وقال في حديثه لـ(الاحداث) إن الإحصائيات الأولية لخسائر القطاع الصناعي أشارت إلى أنها تتجاوز العشرة مليار دولار بخلاف توقف الإنتاج لمدة 8 أشهر، مؤكداً أنها ضخمة للغاية لا يمكن تحديدها بشكل دقيق إلا في حالة توقف الحرب وإجراء عملية حصر كاملة على الأرض، ورأى أن المطلوب إيقاف الحرب فوراً، وأردف “نضم صوتنا إلى الفئة التي تنادي بوقف الحرب”.
نهب الذهب
كشف وزير المالية جبريل إبراهيم عن نهب 2700 كيلو جرام من الذهب من مصفاة الخرطوم الحكومية بسبب الحرب لكنه قال إن احتياطي السودان من الذهب مازال في مكان آمن. وأكد حرص الحكومة السودانية على إجراء مسح جيولوجي لمعرفة مخزون المعادن بما فيها اليورانيوم حتى يتمكن السودانيون من الحصول على قروض بموجبها وأن الحكومة تتواصل مع خبراء التعدين الذين غادروا السودان للعودة لممارسة أنشطتهم.
شلل مؤسسات
بالمقابل قال الخبير الاقتصادي د.هيثم فتحي لـ(الاحداث) إن أبرز الآثار الاقتصادية المدمرة للحرب تتمثل في تدهور الأوضاع الاقتصادية وانخفاض قيمة العملة الوطنية، وتوقع بطء حاد في معدلات النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم، وأشار إلى أن الحرب فاقمت أزمة الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وصحة وتعليم، وهذه العوامل أدت إلى “شلل تام في مؤسسات الدولة والحياة العامة بالخرطوم” كما أدت إلى إغلاق تام للمدارس والجامعات.
وأكد فتحي أن الاقتصاد يسير من سيء إلى أسوأ، بسبب غياب الحل السياسي، واستمرار العقوبات الأميركية والأوروبية المعلنة وغير المعلنة، موضحاً أن أي تحسن في الاقتصاد بعد الحرب في الخرطوم مرتبط بمدى الانفتاح الخارجي إقليمياً ودولياً، وأضاف أن الحرب أدت لانهيار الأنشطة الاقتصادية بالبلاد وألحقت أضراراً كبيرة بالبنى الأساسية والأصول والممتلكات الاستراتيجية للدولة، من سلب ونهب الممتلكات الشخصية للمواطنين، وأدت لزيادة نزوح عدد كبير من مواطني العاصمة وغيرها من الولايات، مشيراً إلى أن هناك انهيار تام في المستوى المعيشي للأسر منذ بداية الحرب الأمر الذي أدى لارتفاع معدلات الفقر “المدقع” والعطالة على إثر تلك التطورات.
ارتفاع عجز الموازنة
ويرى الخبير الاقتصادي د.محمد الناير أن تداعيات الحرب أثرت على الموازنة العامة وإيرادات الدولة وزيادة حجم الإنفاق، إضافة إلى ارتفاع عجز الموازنة والميزان التجاري، منوهاً إلى أن الخسائر الاقتصادية للسودان منذ اندلاع الحرب لم يتم حصر حجمها حتى الآن، ولم تصدر أي تقارير أو دراسات رسمية، غير مستبعداً أنها تقدر بعشرات المليارات من الدولارات لكنه يستبعد انهيار اقتصاد السودان، وعزا ذلك لامتلاكه الموارد الطبيعية الضخمة المتمثلة في 85 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، والمستغل منه حتى الآن حوالي 25 بالمئة فقط، كما أن السودان يمتلك 110 مليون رأس من الماشية، علاوة على أن السودان يتمتع بتنوع المصادر المائية، وتنوع المحاصيل وتنوع المناخ والثروات الباطنية بوجود أكثر من 30 معدناً على رأسها الذهب ومعادن ثمينة أخرى وكميات من النفط لم تكتشف حتى الآن، فضلاً عن موقع السودان الاستراتيجي.
إفلاس رجال أعمال
وأثرت الحرب سلباً على رجال المال والأعمال، وتكبد أصحاب العمل خسائر كبيرة أجبرت بعضهم لإعلان الإفلاس ومغادرة البلاد، فيما قرر البعض سحب استثماراتهم للخارج، وظهر الأثر في تقلص حجم الصادرات والواردات في السودان بنسبة 23% خلال عام 2023، وفقاً لتقرير من هيئة الموانئ السودانية، مقارنةً بالعام السابق.
وزادت تعقيدات من تفاقم معاناة المصدرين بسبب قرار وزارة المالية برفع قيمة “الدولار الجمركي”، أي مؤشر تعرفة الجمارك مع تذبذب أسعار الصرف، ليصل إلى 950 جنيهاً بدلاً من 650 جنيهاً.
رئيس الغرفة التجارية السابق، الصادق جلال، وصف القرار بأنه “تدمير للاقتصاد”، وتراجعت قيمة العملة المحلية ما أثر على أصحاب العمل فضلاً عن توقف 70% من فروع المصارف في مناطق القتال، وفقاً لتقرير بنك السودان المركزي، ما أدى لصعوبة في إجراء المعاملات البنكية.
وكشف عضو أصحاب العمل السوداني حسان كمال عن تأثر قطاع الأعمال بصورة كبيرة بتداعيات الحرب التي أكملت العام وهو من الأسباب الأساسية للتدهور الاقتصادي، وقال لـ(الأحداث) “لايوجد قطاع الآن عدا بعض الأعمال التي تعتبر تكملة لمسيرة الحياة والمعني بتوفير بعض السلع والخدمات الاستراتيجية في المناطق الآمنة مثل الدقيق والمواد الغذائية التي يحتاجها المواطن”، وأضاف “لكن بصورة عامة هنالك انتهاك مريع جداً وهو لأول مرة يحدث في الحروب، وهو نقل المصانع المنتجة نفسها إلى خارج البلاد بل وهدم البني التحتية حتى لا تكون هنالك بيئة عمل للتصنيع أو التجارة، بجانب هجرة كل رجال الأعمال والمستثمرين السودانين، وتابع “الآن السودان افتقر إلى كل شيء من مصانع ومواد تصنيع خام ورجال أعمال”، وطالب حسان الدولة بأن تعد العدة لإعادة تشغيل هذه الأعمال من خلال إعداد شراكات مع الدول التي تقدم يد العون للسودان.