الركابي حسن يعقوب
قاموس الأمثال السودانية ثري ويكتنز بالكثير من الأمثال الشعبية المعبرة، وتعتبر الأمثال مكون رئيسي من مكونات الأدب والثقافة الشعبية في السودان ، وكثيراً ما استخدمت الأمثال لتجسيد ووصف وقائع سياسية واجتماعية وتلخيصها في عبارة أو جملة واحدة تُغني كثيراً عن تدبيج المقالات أو الإسهاب في الشرح والتفصيل من أجل توصيل فكرة معينة أو رسالة محددة .
من هذه الأمثال الشعبية المثل الذي يقول (بركة الجات منك يا الجامع) ، وتحكي قصة هذا المثل عن رجل كان لا يرتاد المسجد للصلاة في جماعة تكاسلاً ومكتفياً بالصلاة منفرداً في البيت حتى أشتهر بذلك فأخذ أهل القرية في لومه على ذلك وعابوا عليه فعله هذا وعزوا عليه في الخطاب ، ولما لم يكن أمام الرجل من حجة يدفع بها عن نفسه الملامة إذ أن الصلاة جماعة في المسجد أفضل من الصلاة في البيت في الأجر والثواب وأنه ليس له عذر يعفيه من الذهاب إلى المسجد فقد وافق مكرهاً على الصلاة في المسجد ، وفي أول يوم ذهب فيه إلى المسجد وجده مغلقاً فما كان منه إلا أن تهلل فرحاً وقال (بركة الجات منك يا الجامع) وعاد أدراجه إلى بيته مسرعاً وعاد إلى الصلاة في البيت .
في الأنباء أن واشنطون تقدمت بطلب للحكومة السودانية لزيارة وفد أمريكي للسودان في السابع من أغسطس المقبل يضم مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانثا باور ، والمبعوث المريكي الخاص للسودان توم بيريلو ، والقائم بالأعمال الأمريكي لدى السودان كولين كرينويلجي وذلك للتباحث مع الجانب السوداني حول استئناف المفاوضات بين الجيش وميليشيا آل دقلو المتمردة في جنيف بدلاً عن جدة .
إلى هنا يبدو الأمر منطقياً ومتسقاً إلى حد كبير مع اتجاه الإدارة الأمريكية الحالية نحو تحريك ملف السودان في إطار تدعيم الحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي عقب تنحي بايدن عن خوض السباق الرئاسي وانخفاض أسهمه أمام الجمهوري المثير للجدل دونالد ترمب ، وتقديم كامالا هاريس لتكون مرشحة الحزب للرئاسة .
لكن واشنطون قامت بإفساد خطوتها هذه بنفسها عندما تقدمت للسودان بمطالب غريبة تتعلق بإتمام زيارة وفدها المفترض للسودان إذ اشترطت أن تسبق زيارة وفدها وحدات حراسة أمريكية لحماية الوفد ، وأن تتم المباحثات لبضع ساعات فقط مع الجانب السوداني في مطار بورتسودان ، وليس بالمقر الرسمي للحكومة بالعاصمة الإدارية المؤقتة في بورتسودان ، بعد أن كان من المقرر أن تستغرق الزيارة يومان .
وجاء رد الحكومة السودانية بالرفض القاطع لهذه الشروط الأمريكية جملة وتفصيلاً ، مما حدا بالجانب الأمريكي إلغاء الزيارة ، وحُق للسودان أن يرفض هذه الشروط والطلبات الغريبة غير المألوفة في مضمار العلاقات الدولية ولا سابقة لها من قبل في إطار العلاقات الثنائية بين البلدين .
وأرى أن هذه الاشتراطات ليست استفزازية واستعلائية فحسب فالسياسة الخارجية الأمريكية مطبوعة على الصلف والاستكبار ولا جديد في ذلك ، ولكن أرادت واشنطون بهذه الاشتراطات الغريبة أن تؤكد ضمنياً على عدم اعترافها بشرعية الحكومة القائمة في السودان ، وأن البرهان مجرد قائد للجيش في حالة صراع مع قائد الميليشيا لا تعامله واشنطون معاملة الرؤساء بل تستدعيه لمقابلة الوفد الأمريكي في المطار أو ربما على متن الطائرة وهي بذلك تضع الجيش السوداني على قدم المساواة مع ميليشيا آل دقلو المتمردة التي دعمتها واشنطون في محاولتها الفاشلة للاستيلاء على السلطة في الخامس عشر من أبريل العام الماضي وتوصيفها للحرب على أنها صراع على السلطة بين (جنرالين) وبذلك تريد واشنطون وضع أساس للمفاوضات المزمعة في جنيف يقوم على وضع الجيش السوداني وميليشيا آل دقلو المتمردة على كفتي ميزان متعادلتين والهدف من ذلك واضح وهو تحويل هزيمة الميليشيا في الميدان إلى نصر على طاولة المفاوضات والقفز فوق الواقع الماثل في أرض المعركة وتجاوز اتفاق جدة الذي ألزم الميليشيا بالخروج من الأعيان المدنية وبيوت المواطنين ولم تلتزم بذلك وهذا لعمري سوء كيل وحشف .
وحسناً فعل رئيس مجلس السيادة برفض الاشتراطات الأمريكية وقد فطن إلى الفخ الأمريكي وصان برفضه الميمون سيادة وطن كامل وشعب بأسره ظل يكتوي بنار الحرب التي تسببت أمريكا ووكلائها الاقليميين في اشعالها وتأجيج نيرانها ، فعلها البرهان وخلَص السودان من ورطة المشاركة في مفاوضات جنيف التي نصبت لإنقاذ ميليشيا آل دقلو من الهزيمة وإعادتها مرة أخرى إلى دائرة الفعل هي وذراعها المدني البغيض (تقدم) بعد أن أعلنت أمريكا إلغاء الزيارة وبالتالي نسف المنبر (الضرار) منبر جنيف ولسان حاله يقول (بركة الجات منك يا أمريكا) .