بحر المودة أهزوجة الأم والسلام: (ثنائية محمد جبارة والسر عثمان الطيب)

حسن سعيد المجمر

لا يخالجني الشك في أن السر عثمان الطيب شاعر أهزوجة (بحر المودة) التي أثارت وجدان غالبية السودانيين بسبب تناولها للأم وما أدراك ما الأم، فقد أبعدع في وصف حنانها بالفيض الدفاق الذي يغمر الوجدان في كل حين في عتمة الحياة أو في سعادتها، ذلك الحنان الذي يتجاوز التباين الثقافي والعرقي ويهل بدراً يتلألأ في بحور الشوق لهفة تصحب الأبناء والبنات باختلاف مهاجرهم ومراحل أعمارهم، وتباين ألسنتهم وألوانهم وآرائهم السياسية وغير السياسية وانتماءاتهم الجغرافية في وطن تكاد تمزق وحدته نزعات حب السلطة.
في هذا السودان القارة الذي أرهقته مخاطر علو الجهوية والقبلية والخاص على العام منذ فجر الاستقلال، والناس يتطلعون إلى دولة لا ينقصها إلا تحويل السماحة الاجتماعية والإنسانية إلى بناء عقد اجتماعي يجد فيه الناس جميعا أنفسهم، وبناء مؤسسات تُحظى بثقة المواطن، وتُعنى بفرض الأمن وسيادة القانون، واحترام قيم حقوق الإنسان والحريات العامة، والمشاركة السياسية الواسعة، والمساءلة، والمساواة وعدم التمييز، وتكافؤ الفرص، والعدالة، وقسمة الموارد والتنمية المتوازنة، والاعتراف بحقوق الضحايا وذويهم وإنصافهم وجبر ضررهم والتعاهد على انهاء الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وضمان عدم تكرارها. هذه آمال تحققت في كل مكان وقعت فيه الحروب والأزمات لكنه عجز القادرين على التمام. ذلك العجز الذي أسهم في إضعاف الإرادة السياسية وأهدر فرصة بناء الجبهة الداخلية القوية وإعلاء قيمة الوطن والمواطنة في ظل مختلف الأنظمة الحاكمة للبلاد.
لقد دفع ثمن غياب تلك القيم الملايين من أبناء وبنات الشعب خصوصا سكان الأرياف الذين هم عماد الإنتاج وزاده، حينما وجدوا أنفسهم يجأرون بالشكوى من غياب الخدمات الأساسية، والدولة تتقاذفها أمواج صراعات نخبها بعيدا عن الشواغل الحياتية للمواطنين الذي ولد بعضهم وماتوا دون أن يستخرجوا شهادة ميلاد أو جواز سفر.
ومن تلك المآسي الحرمان من التعليم الذي كان ينبغي أن يكون مجانا في مراحله الأولية، ومتاحا في مراحله العليا الجامعية.
لا تنعقد جلسة أنس بين من هم فوق الثلاثين إلى الأربعين من العمر إلا وتجدهم يبتدرون حكاويهم بتلكم الرحلة القاسية لتلقي العلم التي كانت تنتزعهم بقسوة من قراهم وفرقانهم لا تراعي قلة حيلتهم أو دموعهم وهم كزغب الطيور التي لم ينبت ريشها، ولا حاجتهم الطبيعية لدفيء العائلة، وحضن الأم، حيث كان التعليم حلما بعيد المنال لعامة الشعب خصوص في الأرياف والبوادي البعيدة، فالمدارس الوسطى والثانوية كانت تؤسس المدن التي لم يكن الوصول إليها سهلا إلا لمن امتلكت أسرهم القدرة على تحمل الكُلفة المالية العالية، ورباطة الجأش والصبر على ترك صغارهم يجابهون تحديات ومشقة سكن الداخليات أو رعاية الأقرباء.
أجيال من أبناء الريف مروا بتلك التجارب منهم من استطاع اجتيازها بنجاح، ومنهم من غلبته فعاد أدراجه حاسرا امتدت به الحياة ليروي لأحفاده العبر والدروس.
شوفي الزمن يا يمه ساقني بعيد خلاص
دردرني واتغربت واتبهدلت وريني الخلاص
لقد جسدت كلمات أغنية بحر المودة صور ما زالت حاضرة في نفوس تلك الأجيال التي لم تهنأ برحلة باص ميسورة على طريق مسفلت ولا هاتف تسمع من خلاله صوت الأم أو الأب، حتى رسالة الأحباب عبر البريد تفقد رائحة من كتبها لطول الزمان والمسافة التي تقطعها، فتقتل صاحبها بالشوق كلما استذكر كلماتها صباحا:
يا يمه يا نور الصباح وكتين يطل
وآشري يا زينوبة ولدك في بحور الشوق كتل
محروم من الحب والمحنة وراك همل
هؤلاء كن الأمهات اللائي عبر عنهن شاعرنا السر عثمان الطيب، وتغنى لهن بأعذب لحن وأداء الفنان محمد جبارة، فهل ما زالت دعوات الأمهات هي نفسها تتردد في كل ربوع السودان تنضح إلفة ومودة ورحمة حرصن على غرسها في جوف أبنائهن منذ أول وهلة أطلوا فيها على الدنيا وهن يغالبن ألم المخاض الذي يغادر رويدا كقرص الشمس يصارع سحابات الخريف عند الغروب؟
الأمل أن تنهي هذه الحرب قسوة القلوب التي أتيح لها سماع تلك الكلمات والألحان، لأن تتجه نحو غرس قيم التسامح واحترام حرمات والكرامة الإنسانية بين كل السودانيين، ومن مختلف الأعراق من أم دافوق إلى قرورة ومن أرقين إلى الجبلين ومن الضعين إلى سواكن ومن نيالا إلى دنقلا.
التحية أعذبها نهديها للذين قاموا إنابة عنا بتكريم كروان منحنى النيل المبدع محمد جبارة في الرياض بالسعودية، وتمتد التحية للصديق العزيز الأستاذ الدكتور/ أحمد إبراهيم أبو شوك سيد تأريخ الأحداث الاجتماعية والثقافية.

Exit mobile version