انقلاب 1989: يوم عدمت الطحنية في الدكاكين والبطاريات في الورش
بروف عبد الله علي إبراهيم
انعدمت بطاريات العربات من السوق فجأة بعد انقلاب يونيو 1989. وكنت في أمض الحاجة إلى واحدة. ورثي لحالي “دماغ” (وهو الرجل المتنفذ في قول صديقي المرحوم حذيفة) من دماغات مصنع الروبي وبرَّني بواحدة. وحين دخلت مخازن المصنع لاستلام السلعة النادرة وجدت البطاريات مرصوصة على مد البصر. فسألت الدماغ، صاحبي، عن هذا المعدوم في سوق الخرطوم، فقال: “جاءنا أمر الحكومة أن نحجز على كل الإنتاج وبيعه للقوات المسلحة”. وعلمت بعد ذلك أن حلاوة الطحينية قد جرى عليها ما جرى للبطاريات. وترك منظر البطاريات، التي حُرِّمت على المدنيين، خاطرة في نفسي عما بدا لي من تلازم وفرة التعيينات وغيرها للقوات المسلحة واستيلاء نفس تلك القوات على مقاليد الحكم.
الحكومات الديمقراطية وخاصة المدنيين قبل عامتهم سواء في عدم الاعتبار الدقيق الملتزم لحاجيات القوات المسلحة المأمورة أبداً بالقتال لوحدة الوطن. فقد أضرب القضاة، أو كادوا لأن السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء في 1986-1989، رفع مرتبات ضباط القوات المسلحة لتساوي مرتباتهم. وقد استغرب السيد الصادق لفئة تضرب لأن فئة أخرى قد تساوت معها في الأجر في حين لم ينقص مرتب الفئة المضربة مليماً واحداً.
ومن أكثر الأشياء لوماً أن خاصة المدنيين جحدوا حتى التأييد المعنوي لقوات مسلحة تخوض حرباً قبيحة، ولكنها حقيقية. وأذكر أننا “خضعنا” في مؤتمر الحوار الوطني للسلام شتاء 1989 إلى تنوير دقيق من العقيد حمدين عن خسران القوات المسلحة مائة في المائة جبهة الحرب المعنوية ضد العقيد قرنق من جراء ربط كثير من المدنيين، وبين الصفوة خاصة، بين إدانتهم للحرب وبين التفريط في عدة وعتاد ومعنويات القوات المسلحة. فقد كان قادة الرأي والسياسة في حالة تهافت على السلام مع الحركة الشعبية بغير تحقيق أو تقدير سليم لحقائق القوات المسلحة في الميدان. ومن تجربتي الخاصة فإن طوائف من اليسار، التي رفعت العقيد قرنق إلى مصاف هوشي منه أو جيفارا، قد أخفت خلف دعوتها للسلام حلفاً سياسياً أصيلاً مع حركته الشعبية. ونمت عادة الساعة الثالثة ظهراً السرية التي تتحلق جماعات منها حول الراديو بدار أساتذة جامعة الخرطوم تستمع إلى خطو قرنق وهو يلتقط ثمار المدن الناضجة ليبلغ الخرطوم الذميمة، فيفتحها وينزل المنَّ والسَّـلوى والسودان الجديد وربما الاشتراكية والديمقراطية الجديدة. وقد علمت أن بعض وفود هؤلاء اليساريين إلى أديس أبابا للقاء قرنق، أو من هم دونه، كانوا يؤخذون لمشاهدة فيلم وثائقي عن سقوط مدينة الناصر في أيدي الحركة الشعبية. وقد احتقنت غيظاً نظرياً وإنسانياً من هذه النشاطات التي تروج باسم السلام واليسار وهي مناصرة مكشوفة لطرف قرنق. وكتبت كلمة في جريدة الأيام بتاريخ 17/12/1987 عنوانها “عند الكرمك نذود عن حياض وطن تلتحم فيه الحرية بالعدالة الاجتماعية”. وقد أردت بكتابتها استنقاذ اليسار من ورطته اللئيمة تجاه قوات مسلحة مأمورة بالقتال. وهي ورطة غير ذكية حالت دون اليسار ودون تعميق معرفته بفقه الحرب والسـلام وأدواتهما. تعود المعارضة هذه المرة وقد ارتكبت خطأ فادحاً بحق القوات المسلحة في إعلانها الحرب عليها على ضوء تقديرات لم يحالفها الصواب. فقد عدت المعارضة القوات المسلحة، على ضوء تطهيرات الإنقاذ وتعييناته، مخلب قط للنظام وأن من تبقى منها من خيار الضباط والجنود سينشق عن الحكومة ويلتحق بقوات المعارضة متى بدأت النضال المسلح ضد الإنقاذ. وتذكرون النبأ الكاذب عن انسلاخ ضابط بعينه أو آخر، الذي أذاعته المعارضة، وارتدَّ إلى نحر مطلقيه. وبالنظر إلى هذا التاريخ السلبي للمدنيين الصفوة وأحزاب المعارضة مع القوات المسلحة، فإن على المعارضة الداخلة في الوفاق أن تسير باحتراس وانضباط ومسؤولية تجاه القوات المسلحة سواء في أدائها الميداني والسلامي، أو في منزلها في السودان الحديث المرجو.
فقد قال رجل حكيم ما: إن القوات المسلحة ليست كالشركات هدفها الربح، وهي ليست كالجامعات مطلبها البحث والحقيقة. فغاية القوات المسلحة إذا خاضت حرباً، حلالاً أم حراماً، هو النصر. ويوم يُكتب تاريخ قواتنا المسلحة في العقد الأخير سنجد أن الإنقاذ لم تُقصِّر معها تقصير الآخرين في باب الكرّ والفرّ والظفر.