الوعد المشؤوم… وعد بلفور: خيانةٌ صنعت قرنًا من الجراح

عبدالعزيز يعقوب – فلادلفيا
٢٣ نوفمبر ٢٠٢٥

(١)
كُتِب هذا المقال أول مرة في نوفمبر ٢٠٢٠، ويُعاد اليوم — في زمن تتقاطع فيه الحقائق بالدم، وتتهاوى الأقنعة أمام وعي الشعوب — لأن معركة الوعي لا تُحسم بالرصاص، بل بكلمةٍ تُعيد التاريخ إلى مكانه الصحيح.
إنّ الأمم التي تفقد ذاكرتها تُعيد ارتكاب المأساة، والأوطان التي تُخطئ قراءة التاريخ تُسلّم مستقبلها طوعًا إلى من يكتب نهاياتها.
ولأن الحاضر العربي والعالمي مملوءٌ بالضباب، فإن العودة إلى جذور المشهد ليست خيارًا، بل ضرورة لا يملكُ أحدٌ حقّ التملص منها.
بعد الحرب العالمية الأولى، تهاوت الدولة العثمانية، وتقدّمت القوى الاستعمارية — بعتادها وجشعها — لتقسيم إرثٍ لم يكن ملكًا لها، وفق اتفاقيات ما زالت سمومها تُقطّر في شرايين المنطقة.
في مقدمة تلك الاتفاقيات جاءت سايكس–بيكو، التي لم تُقسّم الخرائط فقط، بل مزّقت النسيج الإنساني، وأسسّت لنظامٍ دولي يرى العالم العربي بما فيه من حضارات وثروات مجرد “غنيمة جغرافية” قابلة للمقاسمة.
وما بين لحظة سقوط إمبراطورية وصعود أخرى، لعبت بريطانيا لعبة الوهم الكبرى،
وعدت العرب بالاستقلال، ودعت شريف مكة إلى الثورة ضد الدولة العثمانية، فاستجاب، وقدّم ما يقدمه من يظن أنه شريكٌ في صناعة مستقبلٍ جديد.
لكن بريطانيا لم تكن ترى في العرب سوى أدوات، وفي الثورة سوى جسرٍ لتعبر فوقه نحو مشروعها الاستعماري.
وحين انتهت الحرب، لم تمدّ يدها للحليف، بل دفعته إلى المنفى، وتركت وعودها تتبخر كأنها لم تكن، وسُجِّلت الواقعة في التاريخ كإحدى أكثر لحظات الخديعة فجورًا وازدراءً لحقوق الشعوب.
(٢)
ثم جاء وعد بلفور…
ذلك اليوم الأسود، الثاني من نوفمبر ١٩١٧، الذي غيّر وجه المنطقة، ودشّن قرنًا من النار، كان يمكن للعالم أن يتجنّبه لو لم تُمسك بريطانيا بقلمٍ يوزّع ما لا تملك على من لا يستحق.
كتب وزير خارجيتها، آرثر جيمس بلفور، رسالة إلى ليونيل روتشيلد، مُعلِنًا فيها “تعاطف” حكومته مع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وكأن فلسطين أرضٌ بلا شعب، وكأن أهلها مجرد تفاصيل يمكن محوها بالحبر.
لم يكن ذلك “تعاطفًا”، بل هندسة سياسية لتغيير وجه الشرق، ومقدمة لزرع كيانٍ يقوم على طرد شعبٍ أصيل من أرضه لصالح مشروع استعماري صار لاحقًا قاعدة صلبة للمصالح الغربية.
وحتى السطر الذي ادّعى احترام حقوق غير اليهود في فلسطين كان خدعةً تكميلية…
لغةً مصاغة بعناية لتخدير الرأي العام، ولتقديم الاحتلال القادم في ثوب “إنساني”.
لكن الحقائق التي تلت مزّقت هذا الثوب وأظهرت الحقيقة كاملة:
لم يكن وعد بلفور وثيقة سياسية… بل رخصة مفتوحة لاستباحة شعب.
ولسنا اليوم بحاجة إلى برهان إضافي.
فلو كان منطق “الوجود التاريخي القديم” مبررًا لإقامة دول، لكان على العالم كله أن يُعيد رسم خرائطه، فبهذا المنطق “هل يحق للهنود الحمر اليوم — بعد مائتين عاما ونيف — أن يطردوا الأوروبيين واليهود والآسيويين والأفارقة من أمريكا الشمالية ارض الأحلام ليعيدوا بناء “دولة الهنود الحمر الأصلية”؟
لو قبل العالم بهذا المنطق، لانفجرت البشرية بحروبٍ لا تنتهي.
لكن في فلسطين، وحدها، أرادوا للتاريخ أن يتحوّل إلى سكين.
(٣)
ما تعرّض له الشعب الفلسطيني خلال القرن الماضي — من قتل وتهجير، ومجازر، وتطهير عرقي، وحصار، ومحاولات منهجية لمحو الذاكرة — ليس مأساة تخص شعبًا واحدًا، بل جرحًا مفتوحًا في وجه الضمير الإنساني بأكمله.
ولذلك وقفت حركات التحرر الكبرى، من مانديلا إلى نيريري إلى غاندي إلى قادة أمريكا اللاتينية، مع فلسطين، لأنها تجسّد الحقيقة الوحيدة التي يفهمها الأحرار في العالم، بان الاحتلال ظلمٌ لا يُجمَّل، والظلم لا يصبح عدلًا مهما طالت فصوله.
لكنّ عالم اليوم، المثقل بالازدواجية، يحاول إعادة تعريف الحق وفق مصالحه، ويحاول إقناع الشعوب بأن القوة تعطي الشرعية، وأن الضعيف لا حق له إلا أن يصمت.
إلا أن الشعوب — مهما انهزمت أنظمتها، ومهما انحنى بعض حكامها — تظل هي صاحبة الكلمة الأخيرة.
فإرادة الشعوب لا تُشترى، ولا تُستعار، ولا تموت.
لقد انهارت أنظمة كثيرة لأنها فقدت بوصلة الحق، وظنّت أن التحالف مع الأقوى يضمن البقاء.
لكن تاريخ القرن العشرين والواحد والعشرين يقول بوضوح:
من لا يقف مع شعبه لن تقف معه الجغرافيا ولا القوة ولا المال.
وفلسطين — رغم كل الألم — ما زالت أقوى مما يظن المستكبرون، لأن قوة الشعوب لا تقاس بالعتاد، بل بقدرتها على الصمود و البقاء رغم كل محاولات المحو.

والله المستعان.

نداء إلى كل ضمير حيّ في العالم
• اقرأوا التاريخ قبل أن تصدروا أحكامكم.
• لا تجعلوا من الإعلام الموجَّه مرجعًا وحيدًا لكم.
• لا أطلب منكم الاصطفاف الأعمى، بل أطلب شيئًا واحدًا “الوعي.”
• لأن الجهل هو الحليف الأكبر للظلم، ولأن الشعوب التي لا تتعلم، تُسلّم أبناءها لجلادي الغد.
اقرأوا التاريخ… فربما كان خلاص المستقبل في سطرٍ نُسيَ بين دفتيه.
أشعلوا الوعي… فهو أعدل الأسلحة، وأطولها عمرًا وصمودا.

Exit mobile version