رأي

الوثيقة الدستورية: طلاق بائن بينونة كبرى فهل من محلل؟!

 

فوزي بشرى

يستطيع البرهان تعديل الوثيقة الدستورية فهو طرف فيها وليس منشئ لها بمفرده. تلك حقيقة لا يمكن القفز عليها. الأمر الثاني أن الوثيقة الدستورية كانت تستهدف معالجة وضع (انتقالي) الجميع فيه ( انتقاليون) بمن فيهم البرهان وحكومة حمدوك. والحال كذلك فإنه لا يخفى على البرهان ولا على غيره أن (الوثيقة الدستورية) ما عادت معبرة عن حقيقة الواقع السياسي اليوم ولذلك فإن محاولة تأسيس أي ترتيب سياسي بالاعتماد عليها لا يعدو كونه إيهاما بوجود ما هو غير موجود.

 

وهذا ضرب من ( الفهلوة السياسية ) واستغفال للناس، وربما كان أيضا معبرا عن خلو ( يد السلطة) من التدبير السياسي والأفكار الجديدة التي يمكن أن تعبر بالناس فوق ركام الحرب التي ردت البلاد إلى ما كانت عليه بداية القرن الماضي.

الواقعية السياسية تقول إن هناك ( سلطة أمر واقع) يمثلها البرهان بصفته قائدا للجيش ورئيسا للبلاد. وسيكون من مصلحة السودان وأهله أولا ومن مصلحة البرهان أن يصدر قرارت رئاسية من موقعه كرئيس للبلاد أمرا واقعا لا خيار لأحد فيه وذلك هو الحال منذ انقلابه على الوثيقة الدستورية. فليس هناك (نصف انقلاب). ولأن يتحمل البرهان مسؤوليته (كرئيس انقلاب) شأنه شأن عبود ونميري والبشير وأن يتحمل مسؤوليته عن الحرب وعن تحقيق النصر (المكلف) دون أي مسوح وأقنعة ديمقراطية فذلك أفضل له وللشعب الذي سيعرف (حقيقة الوضع) دون أي (تدليس سياسي) بعزو أفعاله وقراراته إلى (الوثيقة الدستورية)

إن وضع البلاد لا يصلح لأي عمل سياسي. فالأحزاب السياسية في حالة من (الانيميا الفكرية) و الضعف التنظيمي والتشظي البنيوي والتشرذم الأسري وكل ذلك انتهى بها إلى (عجز وظيفي) تجاه الناس. وذلك بعض مما كشفته الحرب. ولذلك فإن السعي للإيهام بإمكانية تجميل وجه السلطة القائمة بمسوح سياسية تكون خلطة من (أحزاب أو تنظيمات سياسية أو تجمعات مناطقية أو من المؤلفة قلوبهم أو من المتأبطين أسلحتهم، مثل هذا السعي سيكون أسوأ ما يمكن أن يحدث بعد الحرب أو أثناءها.

إن أولوية السودان اليوم أولوية أمنية عسكرية لا يتقدم عليها شاغل آخر.

إن ما تحتاجه البلاد على الفور وبلا تأجيل أو تلكؤ هو أن يقوم البرهان بتشكيل حكومة تكنوقراط (حقيقيين) وما أكثرهم في السودان تكون مهمتها وظيفية بالدرجة الأولى في مجال الأمن والصحة والتعليم واستنهاض اقتصاد البلد وفق مقاربات مبتكرة تغادر الطرائق القديمة.

إن مسؤولية البرهان قائد الجيش بتعاميه عن رؤية المخاطر المحدقة بالبلاد في السنوات السابقة للحرب ترتب عليه مسؤولية معالجة آثارها ليس بالعودة إلى الوثيقة الدستورية بل بالقيام بالأشياء التي يفرضها العقل العام والوجدان السليم.

توجد في السودان اليوم عشرات الملايين من قطع السلاح بمختلف أنواعه في يد الحركات المسلحة المقاتلة مع الجيش، وفي أيدي المدنيين سواء احتازوها بصفتهم مستنفرين أو امتلكوها بالشراء للدفاع عن أنفسهم أو هي متاحة لمن أراد في (سوق السلاح) الذي نشأ في كنف الحرب، وكل هذا يفرض على المؤسسة العسكرية والأمنية دون غيرها أن تبادر بعد نهاية الحرب إلى جمع السلاح حتى لا تبقى منه قطعة واحدة خارج سلطان الدولة. هذه أولوية عسكرية أمنية لا علاقة لها بوثيقة دستورية أو لائحة إجرائية.

على الجيش أن يسلم الشعب السوداني بلدا خاليا من الأسلحة ومن المليشيات المناطقية و الإثنية. إن محاولة إدخال قوى سياسية أو تنظيمات مناطقية في حكومة جديدة هي محض سعي (لتفريق) دم الحرب وعواقبها الوخيمة في (الوثيقة الدستورية).

يتوجب على الجيش ( بالبرهان أو بغيره) أن ينهض بمسؤوليته الوطنية على الأقل في الخمس سنوات القادمة مستعينا ( بمجلس استشاري يكون ممثلا لمناطق البلد) يعينه قائد الجيش (سواء كان البرهان أو غيره) غير مستند إلى أي وثيقة. تكون مهمة المجلس الرقابة والمشاركة في صناعة القرار الوطني المعبر فعلا عن مصالح البلاد.

يصار بعد الخمس سنوات على الأقل إلى تكوين جمعية وطنية تكون مهمتها وضع دستور دائم للبلاد. فحسب الخمس أن ينضجن التجربة ويفتحن العقول والقلوب على مطلوبات الإنشاء السياسي الجديد.

أما الأحزاب السياسية فعليها أن تنصرف إلى مهامها الأصيلة بالانخراط في عمليات إعادة البناء التنظيمي وإعادة تعريف أدوارها بما يخرجها من حالة (الانكفاء الخرطومي) و (الحوامة) حول (مظان السلطة المدسترة) والانفتاح بدلا عن ذلك على سواد الناس في المدن والقرى والبوادي وإحسان الصلة بهم و (طلب العفو منهم) والتعهد بأنهم لن يعودوا إلى ما كانوا فيه من (جغم أصواتهم) ثم تركهم في العراء السياسي.

السياسة في أصدق تعريفاتها وأنبلها هي لزوم الناس وخدمتهم لا التكسب باسمهم.

فاذا انقضت السنوات الخمس ووعت الأحزاب مكامن عللها ومرضها وأدرك الشعب (قيمة بطاقته الانتخابية) في تحقيق أمنه وسلامه، بعد أن رأى (عين اليقين) عاقبة (تركه الخرطوم ) للساسة والعسكر يفعلون ما يشأوون وأدرك أن جهاز الدولة من الخطورة بمكان، عندها وعندها فقط تصح السياسة وتخرج من حال كونها (هياجا انتخابيا) إلى ممارسة رشيدة تقوم على البرامج والمساءلة.

باختصار : يجب على البرهان أن يكسر (حنك الوثيقة الدستورية) ويصدر قرارته بسلطة الأمر الواقع دون التذاكي على الشعب بالاتكاء على الوثيقة الدستورية. فالوثيقة (قسيمة زواج ) انتهى بطلاق بينونته كبرى بكبر مأساة الحرب..

والبحث عن (محلل ) هو محض (دجل سياسي) سواء دخل بها أو لم يدخل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى