رأي

الهدنة .. خيارات الرئيس البرهان

فيما ارى
عادل الباز

1
أثار التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو الجمعة 19 ديسمبر الذى قال فيه ( إن هدف واشنطن الفوري بشأن السودان هو وقف الأعمال القتالية قبل العام الجديد بما يسمح للمنظمات الإنسانية بإيصال المساعدات . وسبب الحيرة إنه لا مؤشرات واضحة على وجود تحركات تشي بإمكانية حدوث ذلك في الفترة المتبقية من هذا العام والتي لا تتعدى عشرة أيام من تاريخ التصريح. ولكن تحركات الرئيس البرهان إلى السعودية ولقاءه بالأمير محمد بن سلمان إضافة إلى لقائه بمسعد بولس ثم زيارته لمصر فى فترة ماقبل التصريح تشي بأن هناك شيئاً ما يجري في الكواليس. يمكننا القول إن هناك ما يشير إلى أن هذه التحركات ليست للسياحة إنما وراءها سيناريو يجري إعداده وسيعلن حين تصل الأطراف المنخرطة فيه إلى مرحلة اليقين في أن تحركاتها تلك ستكون مثمرة ومقبولة للرأي العام ويمكن أن تحقق أهدافها.
وإلى أن يتضح مسار تلك التحركات ونتائجها، دعونا ننظر خيارات الرئيس البرهان في حالة أن تلك التحركات تعمل في اتجاه تحقيق تصريحات وزير الخارجية الأميركي ، وخاصة في ظل الضغوط المتصاعدة من السعودية على الإمارات( حشد 20 الف جندى على حدود اليمن /موضوع حضرموت) ومن مصر على المليشيا في أعقاب الخطوط الحمراء التي أعلنتها في بيانها مؤخراً وهى التي حملت رسالة واضحة للمليشيا وداعميها.ثم تصريحات الرئيس السيسى في اعقاب البيان والذى قال فيها ( أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن مصر لم تُصدر في أي وقت تهديدات تجاه إثيوبيا.)…وذلك صحيح ولكن التصريح يثبت ما تم نفيه.!!.كما جاء هذا التصريح في اعقاب المعسكرات التي اقامتها الامارات واللاسلحة التي ارسلتها لمنطقة بنى شنقول باثيوبيا.
2
لننظر في الخيار الأول : قبول الهدنة كما هو مقترح في بيان الرباعية في سبتمبر الماضي، وهو خيار تجرّع كأس من السم في ظل التعبئة التي قادها الرئيس البرهان نفسه خلال الأسابيع الماضية والتي ظل يكرر فيها رفض الهدنة بدون تحقق الشروط اللازمة لذلك. فالرأي العام معبأ ضد أي هدنة بدون الشروط المعلنة المتمثلة في خروج المليشيا من المدن كشرط مسبق. في هذا الإطار يستحيل أن تتحول القيادة والرئيس برهان شخصياً 180% درجة ليعلن قبول الهدنة.
ذلك سيدخل الرئيس البرهان نفسه في ثلاثة مخاطر ماثلة… أولى المخاطر هو تفكك التحالف الذي يقود الحرب والمكون من الجيش والمشتركة والمستنفرين… فآخر لقاء بقيادات الجيش أكد البرهان شروطه للهدنة، فلن يقبل الجيش تحت ستار الهدنة بإعادة المليشيا إلى الحياة العسكرية مرة أخرى، ثم لا يمكنه تجاوز المشتركة التي تملك الآن الآلاف من القوات على جبهات القتال إذ لن يقبلوا أن يتركوا أهلهم في مدن دارفور وكردفان بأي حال تحت رحمة مليشيا مجرمة، وكذلك لن يقبل المستنفرون بإعادة المليشيا لتتسيد المشهد مرة أخرى مهما كانت الضغوط. بهذا تكون الهدنة قد تحولت إلى أداة تفكك وإضعاف للجبهة الداخلية وربما انقسامات عميقة تقود إلى تحولات دراماتيكية في مشهد الحرب كله.
3
الخيار الثاني: أن يقبل الرئيس الهدنة بعد أن يحصل على ضمانات مقنعة ليس له فحسب بل لشركائه في التحالف ويحصل على موافقتهم على الهدنة التي تصحبها ضمانات دولية ولابد أن تحقق الأهداف المعلنة… فإذا حدث ذلك فإن التحالف يمكن أن ينجو من التفكك ويمكن للرأي العام أن يتقبل الهدنة وإن تجاذبته المخاوف استناداً على تجاربه السابقة مع المليشيا والهدن. ما عدا ذلك سيغامر الرئيس بشعبيته بإغضاب الرأي العام ودفع حلفائه إلى اتخاذ مواقف غير متوقعة.
4
الخيار الثالث: أن يتمسك الرئيس البرهان بموقفه وشروطه وخارطة الطريق التي قدمها للأمم المتحدة ويرفض أي مقترحات للهدنة، وهذا سيؤدي لتصاعد الضغوط الدولية عليه في ظل موافقة الطرف الآخر عليها. هنا سيصبح أمام الرئيس خيار واحد وهو مواصلة الحرب حتى ينعدل الميزان العسكري ويرجح موقف الحكومة السودانية في الميدان، أي كسر شوكة المليشيا وصلفها لتذعن لخارطة الطريق التي قدمتها الحكومة. الموقف السعودي سيكون له ثقل نوعي وكذلك الموقف المصري، ولكن الموقف الحاسم هو موقف الشعب والتحالف الذي سيخوض الحرب.
5
من المهم الإشارة إلى أن أي مسار يتعلق بالهدنة، سواء تحقق عبر الضغط الدولي أو عبر التفاهمات الإقليمية، لن يكون مجرد إجراء عابر، بل سيعدّ نقطة تحول في شكل الحرب وإيقاعها ومعادلاتها الداخلية. فالمشهد السوداني اليوم لم يعد معزولاً عن شبكة من التوازنات الجديدة التي تتشكل في المنطقة، بدءاً من التحالفات الخليجية المتغيرة، مروراً بالموقف الأميركي الأكثر انخراطاً، وصولاً إلى إعادة ضبط خطوط النفوذ في شرق إفريقيا والبحر الأحمر.
وبذلك، لم تعد خيارات الرئيس البرهان مجرد خيارات تكتيكية، بل تحولت إلى قرارات تأسيسية ستحدد مستقبل الدولة السودانية: هل ستتجه نحو تسوية تعيد بناء الدولة على قواعد جديدة، أم إلى مرحلة أشد صرامة من القتال تستهدف حسم التوازنات بالقوة؟
الأكيد أن أي خطوة مقبلة لن تقاس فقط بنتائجها السياسية و العسكرية، بل بقدرتها على الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية، والحفاظ على ثقة الشعب، وخلق بيئة واوضاع يمكن أن تبنى عليها تسوية عادلة لا تكافئ المليشيا ولا تبقي السودان رهينة الابتزاز الإقليمي والدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى