تقارير

النيل.. صراع المال والنفوذ

الأحداث – وكالات

بينما تدور رحى المعارك في أكثر من عشر ولايات سودانية، وتتكفل الفيضانات إذاقة باقي الولايات الآمنة بأس الطبيعة وغضبها؛ ترقص إثيوبيا في مكان آخر على إيقاعات خرير مياه أمطارها وهو يسدل ستار تلك المعزوفات الخمس التي ملأت خزان سد النهضة بما يزيد عن 60 مليار مكعب من المياه. تزامن ذلك مع زلزال سياسي تحت قبة برلمان جنوب السودان الذي أجمع نوابه يوم الثامن من يوليو الماضي على مصادقة حكومتهم على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض نهر النيل، والمعروفة إعلاميا ب «اتفاقية عنتيبي». لقد وصلت ارتدادات زلزال برلمان جوبا إلى شمال الوادي، لتهز عرش مصر الغارقة في أزماتها الاقتصادية والباحثة عن التخلص من فوائد قروض البنك الدولي التي أقعدتها عن تنميتها ودورها الريادي في إدارة ملفاتها الأفريقية.

قسمة المياه :

إن اتفاقية عنتيبي، التي ستدخل حيز التنفيذ في السادس من سبتمبر الجاري، تمثل تحولا هيدرو سياسيا هائلا في منطقة حوض النيل، إذ تعد ضربة موجعة للسودان ومصر على السواء. تدعو الاتفاقية إلى إعادة النظر في قسمة مياه النيل، بما يكفل مصلحة الجميع، وتسقط حق «الفيتو» عن السودان ومصر الذي يكفل لهما الاعتراض على إنشاء بقية دول حوض النيل «دول المنبع»، أية مشاريع على النيل دون مواققتهما، وعليه ستنهي هذه الاتفاقية الامتياز التاريخي للسودان ومصر، في إدارة ملفات النيل، بل ستمتد إلى المساس بحصتيهما من التدفقات المائية سنويا. يجري نهر النيل على طول 6.650 كيلومترا، ويغذي برافديه «النيل الأررق والنيل الأبيض» سكان دولتي المصب في السودان ومصر بما يصل إلى 84 مليار متر مكعب سنويا. يحصل السودان بموجب الاتفاقيات التاريخية على 18.5 مليار متر مكعب، بينما تنفرد مصر بما يزيد عن 55.5 مليار متر مكعب، وتتبخر 10 مليارات متر مكعب سنويا من بحيرة النوبة/ ناصر «بحيرة السد العالي». وتحتج بقية دول حوض النيل (إثيوبيا، رواندا، تنزانيا، يوغندا، بورندي، جنوب السودان، كينيا، الكونغو الديمقراطية، إريتريا) على هذه الحصص التاريخية لمياه النيل، باعتبار أن هذه الاتفاقيات قد وقعت إبان الحقبة الاستعمارية، وأنها ليست ملزمة لها. وقد صادقت الدول الست الأولى آنفة الذكر على اتفاقية عنتيبي.
الدولة
عدد السكان / مليون

السودان
48

مصر
112

اثيوبيا
126

اريتريا
3.8

أوغندا
48

كينيا
55

تنزانيا
67

رواندا
14

جنوب السودان
11

الكونغو الديموقراطية
102

بروندي
13

معدلات أمطار مرتفعة :

وفي سعيهما للحفاظ على كسبهما التاريخي، يرى السودان ومصر أن قسمة مياه النيل بشكلها الحالي عادلة من حيث أن دول حوض النيل الأخرى تقع ضمن المناطق الاستوائية ذات المعدلات المرتفعة للأمطار والبحيرات الواسعة والموارد المائية المتعددة وأراضي السافانا الغنية، بخلاف السودان ومصر اللذين يقعان في المنطقة المدارية، وتشكل الصحاري غالبية مساحتهما، فضلا عن آثار التغير المناخي الذي زاد من فترات الجفاف ومدد مساحات الصحاري، ما أدى إلى تقلص المساحات المزروعة ونفوق الماشية وانخفاض متوسط نصيب الفرد من المياه العذبة. يدفع جميع ذلك وغيره دولتي المصب «السودان ومصر» إلى التشبث بمكتسباتهما المائية، بما يضمن لهما حفظ أمنهما المائي والقومي.
إن الصراع على موارد المياه لم يكن ذات يوم حصرا على استخدامات المياه للأغراض المنزلية، كما قد يتبادر إلى الأذهان بادئ الأمر، وإنما ظل المسعى نحو المياه لتحقيق الأمن الغذائي بالدرجة الأولى.
إن ما يقدر بحوالي 80% من استخدمات المياه العذبة في العالم مخصصة للزراعة، حيث المحاصيل الزراعية والحبوب مقادير المياه العذبة لإنتاجها. ضخمة من وبالتالي فإنه يتعين لتوفير الأمن الغذائي أن تحصل الدول على كميات وفيرة من المياه العذبة.
وإزاء تحديات الأمن الغذائي المتزايدة حول العالم جراء تداعيات الاحتباس الحراري، وما ينتج عنه من مواسم جفاف وفيضانات وتذبذب في سقوط الأمطار، تفشل كثير من المحاصيل والمواسم الزراعية حول العالم، ما سيدفع إلى مزيد من الابتعاد عن الزراعة المطرية التقليدية في مقابل تطوير آليات الزراعة المروية، فضلا عن توجهات جديدة لعديد من الدول الكبرى المنتجة للغذاء تهدف إلى مراجعة سياساتها التصديرية للمحاصيل، للحفاظ علي مواردها المائية والنأي يها عن تجارة المياه الافتراضية، وهي المياه المتضمنة في المواد في السلع بمختلف أشكالها الصناعية أو الغذائية.

المحصول/ 1 كيلو جرام فقط
كمية المياه المستهلكة لإنتاجه

الأرز
4,000 لتر

القمح
1,500 لتر

الذرة
480 لتر

القطن
10,000 لتر

مصدر رئيسي:

السلعة/ 1 كيلو جرام فقط
كمية المياه المستهلكة لإنتاجها

الشوكولاتة
17,196 لتر

لحم الضأن
10,412 لتر

لحم الدجاج
4,325 لتر

سكر
2,515 لتر

موز
790 لتر

طماطم
214 لتر

استهلاك المياه (البصمة المائية) لبعض المنتجات الغذائية / بالكيلو جرام للسلعة
السلعة
كمية المياه المستهلكة لإنتاجها

بنطلون الجنيز (زراعة القطن وصناعة النسيج)
8,000 لتر

ساندوتش البيرقر
2,400 لتر

كوب الحليب الواحد
200 لتر

البن لانتاج كوب قهوة واحد
140 لتر

كوب الشاي
27 لتر

كان لمفهوم المياه الافتراضية دور رئيس في إبرام المستعمر البريطاني اتفاقيات المياه التي تحفظ للسودان ومصر نصيب الأسد في مياه النيل. لقد شكلت زراعة القطن المصري مصدرا رئيسا لصناعة النسيج في بريطانيا، والذي شكل بدوره ثورة صناعية في أوروبا، وميز طبقة النبلاء وقتذاك، ومع ما يشكله القطن من مياه افتراضية هائلة (10 آلاف لتر من المياه لإنتاج كيلوجرام واحد من القطن)، كان لزاما على البريطانيين ضمان حصول مصر على حصص مضمونة من مياه النيل لخدمة الصناعة والرفاه البريطاني. ولقد أسالت أرض الجزيرة الخصبة في السودان لعاب البريطانيين، فأنشأوا خزان سد سنار في العام 1925ومضوا لتوقيع اتفاقية 1929 لضمان حظ السودان من المياه لزراعة القطن في مشروع الجزيرة، في أول شكل من أشكال تجارة المياه الافتراضية في السودان.

مشاريع مائية:

لكن تجدر الإشارة إلى أن مياه النيل الأبيض والقادمة من بحيرة فيكتوريا جنوبا، لا تمثل سوى نزر يسير من المجموع الكلي لمياه النيل، ويقدر إسهامها بـ 14% فقط، بينما يوفر النيل الأزرق وروافده ما يقدر بحوالي 86% من المجموع الكلي للنيل. وهذا ما يعني أن حصص المياه القادمة إلى السودان ومصر لن تتأثر جوهريا إقامة مشاريع مياه في دول جنوب السودان وبقية بلدان المنبع الاستوائية، والتي لن يكون الشروع فيها بالأمر اليسير، عطفا على ما يميز تلك المناطق من مستنقعات واسعة وخصوصية بيئية، قد تعوق إنشاء المشاريع المائية في دول تتمتع بالأساس بوفرة المياه.
يبدو أن الغرض الأساسي من اتفاقية عنتيبي، هو مشروع إعادة تقسيم مياه النيل الأزرق على وجه الخصوص، والتي تنبع من إثيوبيا. وهناك تؤدي أديس أبابا وحلفاؤها الإقليميون دورا تكتيكيا في هذا الصراع. فبينما جادلت إثيوبيا طوال السنوات الماضية، بأن بناء سد النهضة لن يؤثر على حصص مياه النيل، وهي دعوى سليمة، لأن السد أنشئ بغرض توليد الطاقة الكهرومائية وليس للزراعة، وبالتالي فإنه يكاد لا يستهلك مياه خزان السد؛ إلا أن إثيوبيا بالمقابل عمدت إلى تكوين تكتلات مع دول حوض النيل، وعمل شراكات في ما يتعلق بالمشاريع التنموية، من خلال إمداد إثيوبيا لدول الحوض بالكهرباء المولدة من سد النهضة، في مقابل المصادقة على اتفاقية عنتيبي، وتهدف إثيوبيا ومن وراءها دول إقليمية، إلى إنشاء سدود أحري في إثيوبيا لأغراض الري وزراعة المحاصيل، في تعارض مباشر مع حصص السودان ومصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى