النيابة العامة في السودان: بين ديناميكية التغيير في منصب النائب العام وحلم الاستقرار المؤسسي …. ثمانية نواب عامين في ثمانية أعوام

د. نصرالدين ابوشيبة الخليل
أكاديمي قانوني
في مشهد يعكس هشاشة البنية المؤسسية للعدالة في السودان، تعاقب على منصب النائب العام خلال السنوات الثماني الماضية ثمانية أشخاص، بمعدل تغيير سنوي يكاد يكون دوريًا. هذا التبديل المتكرر لا يمكن اعتباره مجرد حراك إداري، بل هو مؤشر على أزمة أعمق تمس استقلالية النيابة العامة، وفاعليتها، وثقة المجتمع في قدرتها على إنفاذ القانون دون انحياز أو تدخل سياسي. ولا يخفى على القارئ الكريم أن النيابة العامة تمثل حجر الزاوية في منظومة العدالة خاصة في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به السودان في ظل الحرب الدائرة منذ أبريل 2023، الذي تزداد فيه أهمية وجود قيادة مستقرة للنيابة العامة فالنيابة العامة يجب أن تكون “الحارس الأمين على حكم القانون”، وتحقيق هذا الهدف يتطلب وجود ضمانات دستورية وقانونية تمنع التغيير المستمر للنائب العام وتكفل الاستقلال الحقيقي لهذا المنصب وللنيابة العامة ككل. فبحسب قانون النيابة العامة لسنة 2017، فإن النيابة العامة تُعد سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ولها الاستقلال الإداري والمالي اللازم وتضطلع بدور جوهري في حماية الحقوق، ومباشرة التحريات والتحقيقات، وتحريك الدعوى الجنائية. غير أن الواقع العملي يكشف عن تدخلات متكررة من السلطة التنفيذية في تعيين وإقالة النائب العام، مما يضعف استقلالية هذه المؤسسة ويجعل استقلالها محل شك. بالإضافة إلى أن التغيير المستمر للنائب العام وفي فترات زمنية متقاربة تترتب عليه آثار سلبية عديدة على أداء النيابة العامة نذكر منها ما يلي:
اولاً: غياب الاستقرار الإداري: كل نائب عام يأتي برؤية مختلفة عن رؤية النائب العام الذي سبقه، مما يربك السياسات الداخلية للنيابة العامة ويؤخر تنفيذ الخطط طويلة المدى وهذا الامر يظهر بوضوح في أداء النيابة العامة فحتى الان – حسب الظاهر – أنه لا توجد أي خطة او سياسة عامة مجازة ومتفق عليها داخل النيابة العامة يتم تنفيذها بغض النظر عن اسم النائب العام الموجود على رأس النيابة العامة فكل نائب عام يتم تعيينه تكون له خطة وسياسة مختلفة عن سابقه واختلاف هذه السياسات سيعود سلباً على مجمل الأداء العام للنيابة العامة.
ثانياً: ضعف المساءلة المؤسسية: غياب الاستمرارية في منصب النائب العام يجعل من الصعب تقييم أداء النيابة العامة بشكل موضوعي، ويحول دون بناء ثقافة عمل مؤسس على أطر واضحة فيها.
ثالثاً: التأثير السلبي على أعضاء النيابة العامة والكوادر المساعدة فيها فالتغييرات المتكررة في منصب النائب العام تؤثر على معنويات اعضاء النيابة العامة، وتخلق بيئة عمل غير مستقرة بالنسبة لهم.
رابعاً: التغيير المستمر – قد – يؤدي إلى موالاة النائب العام للسلطة التنفيذية المختصة التي قامت بتعينه والسعي لإرضائها في كل الحالات مما يشكل خللاً جوهرياً في استقلال النيابة العامة ويجعلها تابع للسلطة التنفيذية. وتفادياً لكل الإشكاليات المتعلقة بتعيين النائب نرى انه لا بد من القيام ببعض الإجراءات الإصلاحية من اجل ضمان نيابة عامة فاعلة ومستقلة ومن هذه الإجراءات ما يلي:
أولاً: تعديل آلية تعيين النائب العام: يجب اعادة النظر في الطريقة التي يتم بها تعيين النائب العام حالياً ونقترح أن يكون تعيين النائب العام عبر مجلس مستقل لا يخضع للسلطة التنفيذية ولا أرى مانعاً قانونياً يتعارض مع استقلال النيابة العامة من أن تكون هذه الآلية المجلس الأعلى للقضاء فهذا المجلس يرشح رئيس المحكمة الدستورية ما الذي يمنعه من ترشيح النائب العام ايضاً؟ وحتى يتم ذلك لا بد من إعادة تشكيل هذا المجلس بإضافة ممثل أو ممثلين من النيابة العامة له.
وهنا لا بد من الإشارة إلى موضوع مهم أصبح مسكوتاً عنه طوال الفترة السابقة دون مبرر وهو مجلس الأعلى للنيابة العامة وندعو إلى الإسراع في تكوينه للقيام بواجباته المنصوص عليها في قانون النيابة العامة لسنة 2017 فهذا المجلس وفقاً لما جاء في المادة (5) من قانون النيابة العامة لسنة 2017واجبه الرئيس هو وضع السياسة العامة والشئون العامة لسلطة النيابة العامة وحماية استقلال أعضاء النيابة العامة وايضاً من ضمن الاختصاصات المهمة لهذا المجلس ما يلي:
اجازة السياسة العامة للنيابة العامة.
التنسيق بينم الأجهزة العدلية وأجهزة انفاذ القانون والعمل على إزالة معوقات العدالة الجنائية في مرحلة المحاكمة.
وضع الخطط والبرامج اللازمة لتحسين الأداء وزيادة الفعالية وتعزيز النزاهة والشفافية واتخاذ ما يلزم من قرارات وإجراءات لتنفيذها.
اقتراح خطط وبرامج لتطوير النيابة العامة وأي تشريعات لازمة لذلك.
واجازة التقرير السنوي عن أوضاع النيابات العامة وسياسة التعيين ومعايير التقييم المتبعة وأنواع أي جزاءات ادارية تم فرضها وعددها مع بيان ما يتم من تنفيذه من خطط وبرامج لتحسين الأداء، وزيادة الفعالية، وتعزيز النزاهة، والشفافية.
ثانياً: تحديد مدة ولاية واضحة للنائب العام: كأن تكون (4) سنوات مثلاً غير قابلة للتجديد إلا وفقاً ضوابط وشروط صارمة مع وضع شروط صارمة للإقالة، وذلك لضمان الاستقرار في اعمال النيابة العامة.
ثالثاً: تعزيز الرقابة المجتمعية: عبر لجان مستقلة من المجتمع المدني تتابع أداء النيابة العامة وتصدر تقارير دورية.
رابعاً: إصلاح قانون النيابة العامة: وذلك بإعادة النظر فيه مع استصحاب ما ظهر من سلبيات من خلال التطبيق العملي له أثناء عمل النيابة العامة في الفترة السابقة وذلك من أجل معالجتها بما يضمن استقلال النيابة العامة الكامل عن السلطة التنفيذية والتشريعية ويحصنها ويحميها من التدخلات السياسية.
وفي ختام هذا المقال نقول إن تعيين النائب العام ليس مجرد قرار إداري عادي يصدر من رأس الدولة ، بل هو اختبار حقيقي لمدى التزام الدولة بمبدأ استقلال النيابة العامة وسيادة القانون فعندما يتم تعيين النائب العام على أُسس الكفاءة والنزاهة والشفافية، يتحول منصب النائب العام من موقع “سلطوي” إلى ركيزة للعدالة تُعزز ثقة المواطن في الأجهزة العدلية وتحمي المجتمع من الانحرافات القانونية الأمر الذي يدعو الى إعادة النظر في آلية تعيين النائب العام بعيدًا عن الولاءات والمحاصصة، وبما يضمن استقلالية منصب النائب العام عن السلطة التنفيذية، ويُرسّخ دوره كحارسٍ على القانون لا تابعًا له وهنا لا بد من الإشارة إلى إنه ينبغي على القانونيين والأكاديميين أن يضطلعوا بدورهم في تقديم نماذج إصلاحية تُعلي من شأن الكفاءة وتُعيد الاعتبار للمؤسسات العدلية. أما المجتمع المدني والرأي العام، فلهما أيضاً واجب مهم يتمثل في المطالبة بتعيين نائب عام نزيه وشفاف، يُجسّد تطلعات المواطنين في حقهم في الحصول على العدالة ومؤسسات عدلية قوية تحمي الحقوق وتُحاسب الفاسدين مهما علا شأنهم.
أخيراً …
إن إصلاح آلية تعيين النائب العام هو بداية الطريق نحو منظومة عدلية أكثر نزاهة، وأكثر قدرة على حماية الدولة والمجتمع من الداخل، عبر القانون لا عبر السلطة.
والله الموفق



