الميل (٤٠ ).. بطولات تمتد

 

خالدة عبدالسلام

ما إنْ يهلُّ علينا مارسُ من كل عام ، حتى تجترُّ الذاكرةُ يوماً من أيام الله الخالدات ، لم تكُ، أحبتي، ليلةُ الميل (٤٠ ) تستمد ضياءها من قمرٍ اكتملَ و لا من كهرباءَ تشتعلُ ، لكنها كانت تتوهَّجُ أرضاً و سماءً بنيرانِ المدافعِ و ضربِ الصواريخ و الشظايا و الرصاص ، و يا عجبي من أولئك الفتيةِ الذين تصدُّوا لخطوطِ النارِ، كانوا لا يتعدُّون بضعةَ مائةٍ و يزيد ، أمامَ جحافلِ جيشِ الحركةِ الشعبيةِ و الجيشِ اليوغندي بعدَّتهم و عتادهم الذي يبلغ ٢٥ دبابة يوغندية موجهة بالليزر و ٣٠٠٠ جندي ، و تحت نيران هذا القصف الكثيف ، وسط هذا الهجوم العنيف ، وقف بضعُ مائةٍ و يزيدُ من الأبطال المجاهدين بقيادة الشهيد علي عبدالفتاح كالسدِّ المنيع ، أَقاموا الصفُوفَ و حاذُوا بَيْن المناكبِ ، وسدُّوا الخَللَ ، لم تكن تُخيفُهم المدرعةُ المقبلةُ عليهم أو يخشون الموت ، كان همُّهُم أن لا يُخْلَص لدينِ الله أو وطنِهم و فيهم عينٌ تطْرَف ، كانوا بضعَ مائةٍ و يزيدُ لكنهم سجلوا أروعَ معاني البطولةِ و الرجولة ..

علَّمتنا الميلُ (٤٠) ” أن كلماتُنا ستبقى ميتةً هامدةً أعراساً من الشموعِ، فإذا مِتنا من أجلها انتفضتْ و عاشتْ بين الأحياء” نستحضر ذكراها لتظلَّ صورةُ أبطالِها حيةً في القلوبِ و راسخةً في الأذهانِ و ضربَ مثلٍ في التضحيةِ و الفداءِ و الإباءِ و مدرسةً في الجهاد ..

 

و ها نحن اليومَ و بعد مُضيِّ ثمانيةٌ و عشرين عاماً من ذكرى تلك المعركةِ البطوليةِ نجدُ سوداننا أمام ذاتِ التكالبِ من أعدائنا و ذات الثباتِ من مجاهدينا و أبطالنا؛ خريجي مدرسة الحركةِ الإسلاميةِ ، حَمَلَةِ الرسالةِ أمناءِ الأمةِ، دعاةِ الحقِّ ، ورثةِ الأنبياءِ، مناراتِ الهُدى ، طليعةِ الأمةِ و روحِها و كيانِها و التعبيرِ الصادقِ عن وجدانِها ، نبتٌ يرعاهُ اللهُ ليُخرِجَ شجرةً طيبةً مباركةً ثابتةً لا تزعزعُها الرياحُ و لا تقوى عليها معاولُ الباطلِ ، تُؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ و لا ينقطعُ طرحُها يوماً..

 

إلى الشهيدِ علي عبدالفتاح و صحبِه ، نوموا قريري الأعين؛ فإخوانُكم اليومَ ماضون على ذاتِ الدربِ، و ذاتِ الفدائية ، جدَّدوا النيةَ و عقَدوا اللواءَ ، رفعوا الرايةَ ، قابضين على جمرِ القضيةِ ، ثابتين على العهدِ ، شبابٌ عاشقٌ للدين ، لا يهوَى سوى الساحاتِ و الميادين ، لا يُحبُّ سوى تكاليفِ الخنادقِ و صوتِ فوهاتِ البنادقِ ، شبابٌ عفُّوا عن الدُّنيا و زُخْرفها ، يُحبونَ الشهادةَ كما يُحبُّ غيرُهم الحياةَ ، يعُضُّون على الجهادِ بنواجذِهم ، صبَروا على مَضضِ الجراحِ يطلبون الشهادةَ باكورةَ الجهادِ و مطارٍ العروجِ إلى السماءِ ، شبابٌ اجتباهم اللهُ لأصعبٍ المهامِ يحْملون دماءهم على أكُفِّهم و أكفانَهم على أكتافِهم ، ‏عضُّوا على الجِهادِ بنواجذِهم ، وصَبرُوا على مضَضِ الجِرَاح ، يرجُون إحدى الحسنييْن؛ عزَّ النصرِ أو نصرَ الشهادة ، جعلوا من دماءِ شهدائنا خارطةَ الطريقِ لهم للتحريرِ و المُضيِّ قُدُماً نحو حياةٍ تخلُو من احْتلال أو تبعية ..

 

نتنسَّمُ اليومَ ذكرى معركةِ بدر الكبرى و التي تَصْدُف مع ذكرى معركةِ الميل أربعينَ و نحنٌ نشهدُ خواتيمَ معركةِ الكرامةِ ، نرجو النصرَ المبينَ الذي لاحتْ ملامحُه و عمَّتْ بشائرُه ، فيا ربِّ بفضلِ هذا الفيضِ العظيمِ، اللهمَّ ائذَنْ لجُندِكَ أنْ يعودَ، ولدينِكَ أنْ يسُودَ، ولكتابِكَ أنْ يقُودَ و السَّلَامُ على مَن رحلوا مُخَضَّبينَ بِطُهرِ الدِّماءِ ونورِ الاصطِفاء، السَّلامُ على الثَّائرين بدِمائهِم وأشلائهِم ، وتَنَاثَرُوا فِي الأرضِ لَا قَبورَ لَهُم ، أهلُ الحَوَاصِلِ ثُلَّةٌ لَا تُقبَرُ! فَنَتِ الْجُسُومُ ولَم تَزَلْ أروَاحُهُم يَسعَىٰ بِهَا فِي الخُلدِ طَيرٌ أخضَرُ!

و سَتظل الميلُ أربعين فِينا .. بطولاتٌ تمتدُّ

Exit mobile version