المفكر والسياسي السوداني عبدالله علي إبراهيم في حوار: حميدتي أراد أن يتغدى بالثورة قبل أن تتعشى به والحديث عن دولة 56 مكاء وتصدية
حاوره: محمد الأقرع
يمضي القتال بلا هوادة في السودان بين الجيش والدعم السريع. ورغم مرور أكثر من عام ونصف على المواجهات ما زالت آفاق الحل بعيدة مع تزايد في إحصائيات الضحايا وسط المواطنين وموجات نزوح لم يحدث لها مثيل، وهذا مع تضارب في المواقف السياسية بين القوى المدنية ومع تصاعد في وتيرة الاستقطاب على أساس إثني ومناطقي. «القدس العربي» أجرت حوارا مع البروفيسور عبدالله إبراهيم وهو المفكر والمؤرخ والسياسي والأستاذ الجامعي، حول الحرب والخطابات المرتبطة بها والرؤى المطروحة للحل، وفي ما يأتي نصه.
○ أكثر من 500 يوم على حرب السودان ولا تزال المعارك مستمرة والقتل والنزوح كذلك بدون وجود أفق سياسي للحل، كيف ترى الوضع وإلى أين ستمضي البلاد؟
• ببساطة لأن السياسة انتهت بالحرب وصارت الحرب هي السياسة بطريق آخر. فإذا كانت الحرب هذه «عبثية» في نظر تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية و«ملعونة» و«ثأرية» لنظامهم المباد في نظر قوى الإسلاميين فمن أين لنا بسياسة تخرج بنا من حرب امتنعنا عن وضع يدنا على السياسة التي أشعلتها؟
○ عبدالله علي إبراهيم أعلن منذ الأيام الأولى للحرب اصطفافه مع الجيش حفاظاً على الدولة، هناك من يقول إن الجيش نفسه هو المسؤول الأول عن زعزعة الدولة بتكوين قوات الدعم السريع وتغذيتها بالسلاح بالتالي الموقف متناقض مع أدوار المؤسسة التاريخية، ما تعليقك؟
• لا أعرف عبارة مؤسفة ضالة في هذه الحرب من مثل توقف كثير من الناس في تحليل الحرب عند عبارة «الدعم السريع خرجت من رحم الجيش». أولا: الدعم السريع لم تكن جزءا عضوياً من القوات المسلحة في أي يوم بسبب اعتزال الجيش لها وإن وظفها في حرب الحركات المسلحة. الدعم السريع خرجت من نظام الإنقاذ الذي أطاح به السودانيون لخروج قبح لا يوصف من رحمها بما فيه الدعم السريع. شخصياً وددت لو أن الجيش لم يكتف بالإضراب عن التعامل المؤسسي مع الدعم السريع خلال الإنقاذ ودافع بقوة عن احتكاره للسلاح. ولكنه كان جيشاً مقهوراً بنظام أراد أن يحمي نفسه عن خصومه بعيداً حتى عن الجيش نفسه. ولنقل إن الدعم السريع خرج من رحم الجيش: يقول السودانيون في هذه الحالة (دا الحوار الغلب شيخو) في مثل قول العجم انقلب السحر على الساحر. طيب: ورونا همتكم مع هذا الحوار الغلاب وإلا كانت العبارة تاريخاً مسيخاً عقيماً.
○ يتبنى الدعم السريع خطاب محاربة دولة 1956 التي جاءت بعد خروج المستعمر البريطاني باعتبارها من أوردت البلاد الهلاك والتخلف بالإضافة إلى سعيها إلى تحقيق الديمقراطية وأهداف ثورة ديسمبر، برأيك لأي مدى يتماسك هذا الخطاب ويتسق مع الأوضاع في السودان وطبيعة الأزمة؟
• ما يقوله الدعم السريع عن دولة 56 مكاء وتصدية، أي «هبوب» في عبارة سودانية. لا أعرف كياناً كالدعم السريع ارتكب الكبائر بما فيها استئصال جماعات بذاتها عمالة من دول 56 هي الإنقاذ، كالدعم السريع. كانوا بندقية مستأجرة لها. لم يزد الدعم السريع في دعوته هذه من «الرمرمة» (الأكل من بقايا الموائد) من خطاب الهامش والمركز الذي انعقد منذ عقد الثمانينات. وكانت القوى التي كونت «تقدم» هي التي تفننت في ذلك الخطاب صدقاً واحتيالاً في معارضتها لنظام الإنقاذ. من صدق أن الدعم السريع تعرف بما تهرف به عن دولة 56 سيشتري الترام، وصف شرائه طويل فيما أرى.
○ هناك حديث رائج عن مشاريع إقليمية خلف إشعال الحرب بهدف إحداث تغيير ديموغرافي وتوطين عرب الشتات الأفريقي، كيف تنظر لمثل هكذا خطاب؟
• نسبة هذه الحرب لمؤامرة خارجية تريد لعرب الساحل الأفريقي استيطان السودان مما يذيعه جماعة من منسوبي نظام الإنقاذ. ولا أعرف نظاماً استوطن هؤلاء العرب من تشاد مثل الإنقاذ، وسبقته أنظمة. فاستوطن الحوطية والسلامات ومسيرية تشاد قبل الإنقاذ وبعدها. فحتى أولاد منصور من شعب الماهرية أهل حميدتي هم أنفسهم من عرب الساحل بكروا بالوفود إلى السودان، ووظفت الإنقاذ هؤلاء العرب في حملاتها لحرب الحركات المسلحة بأرخص ثمن. وهنا الكارثة: خرقت أعراف الأرض في السودان لتقتطع لهم دوراً لا استحقاق لهم فيها. وكل ما سمعت عن «النزاعات القبلية» خلال فترة الإنقاذ كانت بسبب احتجاج المتضررين من احتلال عرب تشاد بعض دارهم. وتضرر منهم حتى عرب السودان مثل البني هلبة والتعايشة من خرق الإنقاذ لأعراف الدار لصالح عرب الساحل الأفريقي. ولا أعرف شعباً شهد الهول مثل المساليت التي طمع أعراب الساحل الأفريقي فيها منذ يومهم الأول، وراء عرب الشتات، إذا صحت العبارة، إيكولوجيا واقتصاد وسياسات لم نطلب المعرفة بها حتى احتلوا صحن الدار، وبدأت الهضربة.
○ نتابع في حرب السودان تصاعدا للاستقطاب والاستقطاب المضاد المنطلق من خطابات إثنية ـ عرب الشتات، الشمال النيلي، نهر وبحر، الجلابة، الزرقة في دارفور وغيرها، هل نفهم أن هذه الحرب جاءت نتيجة لاحتقانات اجتماعية أكثر من كونها صراع سلطة لقوى داخلية مدعومة من قوى إقليمية بهدف نهب الموارد؟
• طالما كانت الحرب هي السياسة بطريق آخر فلا يستغربن منها أن تتصعد بذلك الاحتقان الذي كان مادة خطاب المعارضين المسلحين وغير المسلحين للإنقاذ. فغزو الخرطوم لإنهاء دولة «الجعليين والشايقية والدناقلة» سدنة دولة 56 مما كان في خيال حركات دارفور المسلحة تطربهم جلالاتهم من مثل «الخرطوم جوه» يريدون استبدال أهلها بأهل خير منهم. وإذا قرأت «الكتاب الأسود» الذي عرضوا فيه مظلمتهم حول نقصهم في السلطة وجدته غبيناً من هذه الجماعات. ولا أريد أن أعيد بذل الإنقاذ في التبغيض الأهلي في حلفها مع أعراب في الداخل ومن «الشتات» لحرب خصومها ممن عرفوا بـ«الأفارقة». ولدت الحرب ضغائن تاريخية في مثل العودة لتاريخ ذائع في شمال السودان عن عرب البقارة، الموصوفين بأنهم حاضنة الدعم السريع، وأدوارهم في دولة المهدية في آخر القرن التاسع عشر. الحرب بالوعة ضغائن كثيرها جرى تسويقه في لعبة الحكومة والمعارضة بلا رصانة.
○ هناك مخاوف من أن تقود الحرب الحالية إلى انقسام السودان، والمجتمع الدولي وبعض القوى السياسية بدأت تلوح بالتعامل مع وضعية ثنائية للسلطة ومناطق السيطرة، فضلاً عن تهديدات حميدتي المستمرة بتشكيل حكومة في المدن والولايات التي يستولي عليها، هل يمكن أن يحدث انفصال جديد لأقاليم في السودان على غرار ما أنتجته حرب الجنوب؟
• الكلام عن انقسام السودان مما نستلهم فيه ليبيا التي كانت تاريخياً دولتان حتى 1923. لم تنشأ في السودان دولتان منذ توحد في حدود القائمة هذه تزيد أو تنقص، كانت مثل دارفور تتأخر في دخول رحابه ولكنها تنتهي فيه. وإذا اقتنعنا جدلاً أن السودان سينقسم هل من يقنع به حميدتي الذي يريده كله، بل تواثق مع «تقدم» على برنامج لسودان مدني ديمقراطي بعد الحرب. ذائعة انقسام السودان من أضغاث المبعوثين الدوليين لنا يروننا كلنا في الدول النامية حالة واحدة كثيرة الإزعاج.
○ ما رأيك للاشتراطات التي يرفعها الجيش بتنفيذ التزامات إعلان جدة المتعلقة بالخروج من منازل المواطنين والأعيان المدنية قبيل الذهاب إلى أي مفاوضات جديدة؟
• أعتقد أنها من أصول علم التفاوض. فما جدوى التفاوض إن كانت حصائله مما يضرب بها عرض الحائط.
○ داخل الجيش توجد مراكز قرار تابعة للإسلاميين تمنع تمرير أي تسوية لا تضمن تواجدهم في المعادلة السياسية مرة أخرى، ما تعليقك؟
• لا أعرف من جاء بما أقنعني بأن للإسلاميين هذا النفوذ في القوات المسلحة. هذا سوء ظن بالقوات المسلحة، وبروبغاندا. وكيف عرف من يقول بأن الإسلاميين لن يعودا للساحة السياسية إلا من جعلوا همهم استثنائهم من الوجود في أي وضع مستقبلي في السودان. فهم في مثل تقدم مثل المنشار يأكل رائح يأكل غاد. فهم يقولون إنهم لن يسمحوا للإسلاميين أن يكونوا في الساحة السياسية، ويقولون في نفس الوقت إن الإسلاميين أشعلوا الحرب وأنف الجيش راغم ليعودوا للحكم. فكأنك تصدق زعمك في رغبتهم العودة للحكم التي أثاروا لها حرباً بتحريمك لهم العودة للحكم أو حتى السياسة. تذكرني بصورة ما حكاية الأشعب الذي كذب على الأطفال عن عزومة بالحي ليتخلص منهم، ثم صدق كذبته وهرول وراء الأطفال للعزومة المصطنعة.
والله لو سئلت لقلت إن على عقلاء البلاد أن يحولوا دون عودة قوى الحرية والتغيير للحكم، فشلوا وأدمنوا الفشل.
○ هل قضت الحرب على ثورة ديسمبر وأهدافها وأحلامها، وهل يمضي السودانيون إلى تركيبة حكم ووضع يتناقض مع ما خرجوا من أجله قبل أعوام وناضلوا في سبيل تحقيقه بأدوات سلمية دون هوادة؟
• هذه الحرب خرجت من الثورة. لا يريد الإسلاميون التفكير في هذه الواقعة لأنهم لا يريدون أن يتصالحوا مع ما عانته من نظامهم الذي أورثها كياناً ذميماً مثل الدعم السريع، ناهيك من تحالفهم مع الجيش، الدعم السريع طوال فترة الحكومة الانتقالية لرمي العصي في عجلاتها. ولا تريد تقدم، من الجهة الأخرى، تحري خروج الحرب من الثورة لأن من شأن ذلك أن يكشف عن عوارها في إدارة الفترة الانتقالية. هذه حرب لم ترد القضاء على ثورة ديسمبر بل القضاء على الدولة الحديثة للسودان التي تمسكت بها ثورات سبقتها. هل تتصور أن شعار الثورة: «الجنجويد ينحل، ما في ميليشيا بتحكم دولة» مر مرور الكرام على الدعم السريع؟ لقد رأى حميدتي الكتابة على الحائط كما تقول الأعاجم، وأراد أن يتغدى بالثورة قبل أن تتعشى به.
○ الحسم العسكري هل يمكن تحقيقه في الحرب الحالية من قبل الجيش أو حدوث انتصار الدعم السريع؟
• هذا سؤال أفضل أن أسمع من القوات المسلحة عنه. أكثر ما يزعجني في هذه الحرب رجة الاختصاصات. صار الحديث في الشأن العسكري الدقيق أنس بكيات (فراش العزاء).
○ كيف تقيم أدوار القوى السياسية الأخرى، حلفاء البرهان وموقف الحزب الشيوعي وحلفائه من لجان المقاومة فيما يتعلق بالحرب الحالية التي يعيشها السودان؟
• أكبر كتلة واضحة من حلفاء البرهان هم الإسلاميون. ولا أعتقد أنهم يخدمون قضية الجيش في حربه كما لجماعة في إمكانياتها. فأنت حين تقرأ لها مثلاً تجدها في حرب من وراء الحرب مع قوى الحرية والتغيير التي صارت «تقدم» بصورة أو أخرى. وحربها الكبرى حقاً ليست ضد الدعم السريع بل ضد الثورة التي أطاحت بنظامهم. لم يتصالحوا بعد مع خطيئتهم في الدولة وعلى رأسها خروج الدعم السريع نفسه «من رحمها» كما هي العبارة الجارية على لسان خصومها في «تقدم». وبدلاً عن تلمك تلك الخطيئة القاتلة تجدهم يعقدون مقارنة ضالة بين حجم الدعم السريع على أيام دولتهم وحجمه المتفاقم بعد الثورة. لم أر عملاً منهم في القواعد الشعبية، لا تسمع لتوجيهات منه للأطباء الإسلاميين ليكونوا هنا أو هناك، لا دور لهم في الدبلوماسية الشعبية في البلدان المؤثرة في مسار الحرب، ولم أسمع حتى انهم ابتدروا حملة تبرع بالمال وغيره من منصتهم الخاصة لدعم «التكايا» التي بادر بها آخرون في الأحياء. اتصلت ببعض المنابر الإعلامية التي أنشأوها وهذه إيجابية. ما يزعج منهم أنهم لا يقدرون خطر وجودهم في صف الجيش حق قدره، فلم يتورع توم بيرييلو مثلاً من اتهامهم أنهم من وراء استطالة الحرب ولي يد الجيش دون حضور مجالس التفاوض. وددت لو حذروا من من مثل هذا القول لأنه لا يعرف المرء إلى ما سينتهي. أخشى شخصياً أن يصنفوا «إرهابيين» ولن نعرف «نودي وشنا» وين. بدا لي أنهم يريدون استثمار الوضع لصالحهم بأقل تكلفة.
أما الشيوعيون فقد راح عليهم الدرب في الماء منذ استعلوا على المساومة بين الثورة والعسكريين. لقد فهموا التفخيخ فيها ولكنهم استنكفوا أن يكون فيها يدرأون في الحلف الواسع للثورة مطبات ذلك التفخيخ. وانتهزوا عزلتهم من الحكومة الانتقالية لجعلها في مرمى نيرانهم في الهينة والصعبة. يكفي أنهم دعوا يوما لإسقاط الحكومة الانتقالية، وسقطت بيد عمرو لا بيدهم. كان هناك من هو أجدع منهم، انتهوا خلال هذه الحرب إلى بيانات غاضبة من الجميع، وماسخة. جاء في بيان أخير دعوة للجماهير لوقف الحرب وخصت «الجبهة النقابية» بمثل هذه المهمة، وفي الحقيقة لا وجود لجسد كهذا منذ سنوات ناهيك من أنه لم تعد هناك نقابات في هذه الحرب التي أغلقت المصانع بما يعني إلغاء وظيفة «عامل» نفسها.
○ انخرطت الحركات المسلحة إلى جانب الجيش وتطالب الآن بإلاشراك في التفاوض، في حين تصر الدعم السريع وبعض التنظيمات السياسية المحلية وبعض الفاعلين الدوليين بأن يقتصر الحوار على الجيش والدعم السريع فقط؟
• لم أقرأ حيثيات مطلب الحركات المسلحةـ القوات الحليفة، في الاشتراك في مفاوضات السلام. ولا يبدو أنني سأقبلها لو سمعتها، فمطلبهم هذا قد يطعن في منطق مثلي من أن وقوفنا مع الجيش في هذا اليوم، برغم مآخذنا التاريخية عليه، أنه هو الذي يحتكر السلاح والماسك بزمام الحرب قتالاً وتفاوضاً وسلماً. كثيرون يشيرون إلى مثل هذا المطلب السدى للقول هذه الحركات غير مؤتمنة على مبدأ احتكار السلاح حتى لو انتصر الجيش. لا تزال في نفس أمثالي غصة من اتفاق هذه الحركات المسلحة مع العسكريين دون المدنيين في اتفاق سلام جوبا في 2020 واصطناع هيئة هي مجلس شركاء السلام الذي أرادت به استبدال مجلس وزراء الحكومة الانتقالية. آمل أن تلتزم الحركات الضبط والربط تحت قيادة القوات المسلحة.
○ نتابع دعوات دولية من أجل توسيع نطاق المحكمة الجنائية وإرسال قوات أجنبية لحماية المدنيين، برأيك هل يمكن أن تقود تلك الخطوة إلى عدم الإفلات من العقاب وتجنيب المدنيين آثار القتال؟
• هذا سؤال عن وضع نستبق إليه حقائقه. فالعالم القوي زاهد في أن يتدخل بمثل هذه القوات لحماية المدنيين. وإذا أخذناها من هايتي عرفنا أنه لا الأمم المتحدة ولا أمريكا والغرب على شهية للتدخل بمثل ما فعلوا في أوقات مضت. فلم تجد هايتي، التي كانت مسرحاً تاريخياً للتدخلات الأمريكية حتى استردفت الأمم المتحدة معها لعقود، من يتدخل لإنقاذها من دولة العصابات فيها سوى تعاقد مع قوة من الشرطة الكينية لم يكتمل عددها بعد وستلقي نفسها في مواجهة عصابات لا رحمة في قلبها. وتلك جزيرة صغيرة ناهيك عن السودان القارة. وللأمم المتحدة ذكريات غير أنيقة في تدخلها في السودان ببند سادس وسابع رغم أن نطاق عملها العسكري لم يتجاوز دارفور. إذا أراد أي أحد حماية المدنيين فليبدأ بمنع تصعيد الحرب الذي يخاطر به الدعم السريع غير مكترث لنداءات العالم أن يتوقف ليومنا عن الهجوم على الفاشر. فقرار مجلس الأمن (2736 في حزيران/يونيو 2024) صريح في طلبه من الدعم السريع الكف عن الهجوم على الفاشر. ودعا البيت الأبيض منذ أيام الدعم السريع ليوقف حصار الفاشر والهجوم عليها، بل عاقبت أمريكا قائدين من الدعم السريع لدورهما في حصار الفاشر. ليس واضحاً أن كان امتلك العالم الإرادة لحماية المدنيين بقوة حتى يحميهم بالقوة. لربما صرنا ونسة في خشمهم كما نقول.
○ في سياق متصل، دعا مؤخرا الرئيس الأمريكي جو بايدن طرفي القتال إلى العودة مجددا للتفاوض، هل تستطيع الإدارة الأمريكية ممارسة أي ضغوط حقيقية على الجانبين مع اقتراب موعد الانتخابات؟
• لا أعرف إن كان الرئيس بايدن قد دعا للتفاوض في أوكرانيا في حرب طالت لعامين وأكثر. لم يفعل والسبب أنه لا يعتقد أن أوكرانيا قد كسبت كسباً في الأرض تعرض به على مائدة المفاوضات. فالمفاوضات تجري حقاً لا في جدة ولا جنيف، إنها تجري في ميدان الحرب ويتحكم ميزان القوى في استجابة الأطراف لدعوات التفاوض. لم تخف أوكرانيا أن احتلالها لولاية كورسك الروسية كان محاولة منها لترجيح الكفة لصالحها نوعاً ما لتجلس للتفاوض من فوق كسب. غير خاف أن الجيش ما يزال يخوض حرباً دفاعية أسطورية بكل المقاييس عن مواقعه الاستراتيجية والرمزية بوجه قوة عسكرية أمنت خطوط إمدادها من دولة في ثراء الإمارات العربية المتحدة. وخسر أرضاً للدعم السريع بعضها مؤسف جداً مثل ولاية الجزيرة. في خبرتنا يمكن للتفاوض أن يتوقف ليس بسبب ما يجري على مائدته بل لما يجري في الميدان. فخلال مفاوضات الإنقاذ والحركة الشعبية في نيفاشا احتلت الحركة الشعبية مدينة توريت في الجنوب، فغادرت الحكومة مائدة التفاوض ولم تعد إليها إلا بعد أن استردتها. وحسابات ميزان القوى مما ترعى حتى في السياسة المدنية ناهيك عن حرب التي هي التجلي الأصلع للقوة. إذا أرادت أمريكا مساعدتنا فالباب الأدنى لهذه المساعدة في أن تقف بحزم ضد التصعيد، وهذا شيء لا يرتكبه الدعم السريع فحسب، بل يلعب أفراده على مشهد من الناس اليانصيب في الميديا عن الولاية التي ستكون هدف غزوتهم القادمة. فأكثر ما يشفق أمريكا إنسانياً علينا هو كوارث النزوح التي لا يخفي الذي من ورائها وهو الدعم السريع سواء في الجنينة والفاشر وسائر مدن دارفور وكردفان أو الخرطوم ومدني وسنجة، ومنها من ينتظر. فإذا أرادت أي جهة رفع المحنة عن السودانيين فصح أن تكون أولويتها منع التصعيد، ويتم هذا بطريق إخضاع المصعد إلى نظم تأديبية تشل يده. فالنزوح في واقع الحال يتم من مواقع آمنة للجيش حتى غزوها بواسطة الدعم السريع وخسارة الجيش للموقع، فلا ينزح أحد حيث الجيش ما يزال مسيطراً على المكان. ويستغرب المرء لمن يديرون الوجه عن هذه الحقيقة الفاجعة في التصعيد ليساووا بين الجيش والدعم السريع في الإدانة على فعل هو امتياز الدعم السريع حصرياً.