مهند عوض محمود
لم يعد الصراع في جنوب السودان قابلًا للاختزال في ثنائية حكومة ومعارضة كما درج الخطاب السياسي والإعلامي لسنوات، بل دخل مرحلة أكثر تعقيدًا وحساسية، تتقاطع فيها أزمة الحكم البنيوية مع تفكك الدولة، وانسداد الأفق الانتقالي، وظهور معارضة جديدة أكثر تنظيمًا واتساعًا وقدرة على تهديد بقاء النظام القائم. ما نشهده اليوم ليس إعادة إنتاج لانقسامات 2013 أو 2016، بل انتقال المعارضة الجنوبية من طور الاحتجاج والتشظي إلى طور المشروع السياسي البديل، في لحظة يتزامن فيها هذا الصعود مع ضعف غير مسبوق للحركة الشعبية الحاكمة وتآكل شرعيتها السياسية والشعبية.
المعارضة في صيغتها السابقة كانت أسيرة اتفاقات سلام هشة، ومقيّدة بسقوف دولية تمنع الحسم، وتعتمد بدرجة كبيرة على التعبئة العسكرية والاصطفاف القبلي. أما اليوم، فقد أعادت هذه القوى ترتيب نفسها على أساس سياسي – تنظيمي جديد، لا يختزل الصراع في قبيلة أو إقليم، بل يطرحه بوصفه أزمة حكم شامل. هذا التحول تبلور بصورة واضحة مع الإعلان الرسمي عن الميثاق السياسي لتحالف الشعب الموحّد (United People’s Alliance – UPA)، الذي جرى اعتماده وتوقيعه بتاريخ 1 نوفمبر 2025، بوصفه وثيقة تأسيسية جامعة للمعارضة، لا مجرد بيان سياسي عابر.
الميثاق ينطلق من تشخيص مباشر لطبيعة الأزمة في جنوب السودان باعتبارها أزمة دولة مختطفة من قبل نخبة محدودة في جوبا، استخدمت العنف، وعلّقت الدستور عمليًا، وجرّدت اتفاقات السلام من مضمونها، وحوّلت الإثنية إلى أداة حكم، والموارد إلى غنائم. اللافت في نص الميثاق أنه لا يكتفي بالنقد، بل يقر صراحة بحق الشعب في مقاومة وإسقاط أي سلطة تمنع التداول السلمي للسلطة أو تعطل الإرادة الشعبية، وهو طرح يضع شرعية حكم سلفاكير موضع طعن مباشر، خصوصًا في ظل رفضه المعلن والعملي لإجراء الانتخابات، إدراكًا منه أن أي استحقاق انتخابي حقيقي لن يأتي به إلى السلطة مجددًا.
الميثاق يطرح مشروعًا متكاملًا يقوم على تغيير نظامي جذري وغير قابل للارتداد، يبدأ بسلطة انتقالية جديدة، وينتهي بدولة فدرالية ديمقراطية قائمة على الانتخابات الحرة، وفصل السلطات، وإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية على أسس مهنية غير قبلية، ومحاربة الفساد بوصفه منظومة حكم لا مجرد ممارسات فردية. كما يولي أهمية كبيرة للشرعية الخارجية، عبر الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، وحماية المدنيين، والانفتاح على علاقات إقليمية ودولية براغماتية، ما يعكس إدراكًا واضحًا بأن معركة إسقاط النظام أو عزله سياسيًا ستكون سياسية–دبلوماسية بقدر ما هي داخلية.
الأهمية الاستراتيجية القصوى لهذا الميثاق لا تكمن في مضمونه فحسب، بل في هوية الموقّعين عليه، إذ شهد للمرة الأولى اصطفافًا واسعًا لقيادات سياسية وعسكرية من الصف الأول، من أقاليم وقبائل مختلفة، بمن في ذلك شخصيات وازنة من قبيلة الدينكا نفسها، التي شكّلت تاريخيًا العمود الفقري لشرعية الحركة الشعبية الحاكمة. من أبرز الموقّعين: الجنرال باقان أموم أوكيج، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – التيار الحقيقي (R-SPLM)، وأحد القيادات التاريخية للحركة الشعبية؛ والجنرال بول مالونق أوان، رئيس وقائد قوات الجبهة المتحدة لجنوب السودان (SSUF/A)، وأحد أثقل القادة العسكريين المنحدرين من الدينكا، والذي انتقل من قلب المنظومة الحاكمة إلى خصمها الأخطر؛ والجنرال ماريو لوكو توماس، قائد جبهة الخلاص الوطني (NAS-RCC) ممثل الثقل العسكري للاستوائية؛ والجنرال ستيفن بوي رولنيانق، قائد حركة شعب جنوب السودان/الجيش (SSPM/A)؛ والدكتور ماتور غورجوك قاك، رئيس الحركة الوطنية الشعبية (NPM) ممثل الجناح السياسي المدني؛ والجنرال هنري أوياي نياغو، قائد جبهة تحرير شعب أعالي النيل (UNPLF)؛ والجنرال نيال دينق نيال، قائد حركة خلاص جنوب السودان (SSSM).
هذا الاصطفاف العريض، الذي جمع قيادات من الدينكا والاستوائية وأعالي النيل وغيرها، ووقّعوا جميعًا على وثيقة واحدة ببرنامج سياسي موحد، نقل المعارضة من حالة التشتت التاريخي إلى مرحلة الاصطفاف المنظم، وكسر السردية التي طالما استخدمتها الحركة الشعبية لتجريم خصومها باعتبارهم مشروعًا مناوئًا للأغلبية. بذلك، دخل النظام في مأزق شرعي حقيقي، إذ لم يعد قادرًا على الادعاء بتمثيل الثورة أو الأغلبية أو الدولة.
في المقابل، تعاني الحركة الشعبية الحاكمة من إنهاك بنيوي واضح. الحزب لم يعد حزب دولة، بل شبكة مصالح أمنية–اقتصادية تدير الحكم بمنطق البقاء لا التفويض الشعبي. الانقسامات داخل الصف القيادي، تراجع الانضباط داخل الجيش، ضعف القدرة على التعبئة، وانهيار الثقة بين الدولة والمجتمع، كلها عوامل تجعل من الانتخابات خطرًا وجوديًا على النظام، لا مجرد استحقاق مؤجل. لذلك يراهن سلفاكير على إطالة المرحلة الانتقالية وتعطيل أي مسار انتخابي، بالتوازي مع تبنّي تكتيكات الاحتواء والمصالحات الجزئية، عبر إعادة بعض الشخصيات إلى الحكومة أو فتح قنوات خلفية لتفكيك ضغط المعارضة، دون المساس بجوهر معادلة الحكم.
إقليميًا، تكتسب هذه التحولات بعدًا إضافيًا. كينيا أصبحت الحاضنة السياسية الأبرز للمعارضة الجنوبية، توفّر لها مساحة حركة واتصال دولي، دون الانخراط في دعم عسكري مباشر، لكنها تلعب دورًا استراتيجيًا في إعادة تشكيل التوازن السياسي. أوغندا، رغم علاقات موسيفيني الشخصية ببعض قادة المعارضة، لا تزال تميل إلى دعم الوضع القائم أو عدم إسقاطه في الوقت الراهن، لكنها تحتفظ بخطوط مفتوحة مع المعارضة كخيار احتياطي، مدركة أن سلفاكير لم يعد الشريك القوي السابق.
أمنيًا، تعني هذه المعادلة أن جنوب السودان يدخل مرحلة سيولة سياسية عالية، ستنعكس آثارها مباشرة على الإقليم، خصوصًا السودان، عبر طول الشريط الحدودي من أعالي النيل إلى كردفان وغرب كردفان وجنوب دارفور، حيث التمازج الاجتماعي، ومسارات الرعاة، والأسواق غير الرسمية، وحركة السلاح. هذه التحولات تفرض على الخرطوم قراءة دقيقة وعميقة للمشهد الجنوبي، انطلاقًا من فهمها الكامل لتوازنات القوى ومسارات الفعل السياسي والعسكري داخله، مع التزامها موقع المراقبة الواعية التي تُدرك مجريات اللعبة وتحتفظ بكامل أدوات التأثير دون أن تستخدمها علنًا.
الخلاصة أن جنوب السودان يقف اليوم أمام لحظة مفصلية. المعارضة، بخلاف مراحلها السابقة، باتت تمتلك الميثاق، والقيادة، والاختراق القبلي، والبرنامج السياسي، والزخم الإقليمي الكافي لتهديد بقاء حكم سلفاكير، حتى دون إسقاطه عسكريًا. في المقابل، يراهن النظام على الوقت والاحتواء والدعم الخارجي المحدود لتأجيل لحظة الحسم. غير أن ميزان الاتجاه العام يشير بوضوح إلى أن معادلة الحكم القديمة لم تعد قابلة للاستمرار، وأن السؤال لم يعد ما إذا كان التغيير قادمًا، بل كيف ومتى وبأي كلفة سياسية وأمنية على جنوب السودان والإقليم بأسره.
