مهند عوض محمود
منذ اندلاع الحرب في السودان، تحوّلت المصارف السودانية، وبخاصة في ولاية الخرطوم، من رافد رئيس للاقتصاد إلى قطاع يقف على حافة الانهيار بفعل الدمار الهائل الذي تسببت فيه الحرب سواء بوقوعها في دائرة القصف أو بتعرضها للنهب والسرقة الواسعة من جانب المرتزقة من قوات الدعم السريع.
لم تفقد البنوك مقارها وأصولها الثابتة فقط، بل فقدت معظم قيمتها السوقية بسبب الأضرار التي لحقت بمراكز البيانات والمباني والأجهزة والسيارات وغيره ، فضلًا عن أن معظم عقود التأمين لم تعد ذات جدوى لانتهاء صلاحيتها وعدم تغطيتها أخطار الحروب أصلًا، وهو ما حرم البنوك والعملاء معًا من أي تعويضات واقعية.
الأضرار لم تقتصر على الأصول الثابتة للمصارف وحدها، بل امتدّت إلى القطاع الخاص الذي تموّله البنوك، إذ دُمّرت آلاف العقارات والمصانع والمزارع التي كانت تمثّل الضمانات الرئيسية للقروض، وباتت إعادة تأهيلها تتطلب مليارات الجنيهات بينما فقدت هذه الضمانات قيمتها فعليًا مع تدهور قيمة العملة السودانية، حيث قفز سعر صرف الدولار من حوالي 580 جنيهًا قبل الحرب إلى نحو 2750 جنيهًا اليوم بنسبة تدهور تتجاوز 374%، و وصل معدل التضخم في بعض التقديرات غير الرسمية إلى أكثر من 400% سنويًا، ما أدى إلى تآكل القوة الشرائية للمواطنين والمودعين معًا.
هذا الوضع الحرج انعكس مباشرة على هجرة رؤوس الأموال السودانية، إذ خرج جزء منها قبل الحرب، وتزايدت وتيرتها بعدها، في ظل حالة عدم اليقين وضياع الضمانات القانونية الفعلية.
أضف إلى ذلك أن معظم النشاط الاقتصادي قبل الحرب كان يتركّز في ولاية الخرطوم بنسبة كبيرة، بينما ظلت الفروع المصرفية في بقية الولايات أقل حيوية من حيث حجم التداول والأرباح، رغم وجود شبكة فروع لمعظم البنوك في ولايات السودان المختلفة. ومع بدء استعادة الخرطوم لقدر من الاستقرار تدريجيًا، من المتوقع أن تعود بعض البنوك لمقارها، لكن بقاء النشاط المصرفي متركزًا في العاصمة وحدها ظل مخاطرة كبيرة كشفت الحرب عن خطورتها.
يقدّر اقتصاديون أن رؤوس أموال البنوك السودانية قبل الحرب كانت مجتمعة تتراوح ما بين مليار ونصف إلى ملياري دولار أمريكي بالقيمة الاسمية حسب سعر الصرف آنذاك، لكن مع التدمير الواسع الذي تعرضت له الأصول الثابتة والضمانات العقارية، إضافة إلى تدهور سعر الصرف بأكثر من 374%، فقدت البنوك فعليًا جزءًا كبيرًا من قوتها الشرائية ورؤوس أموالها . وتشير التقديرات الواقعية إلى أن القدرة الرأسمالية الحقيقية اليوم قد لا تتجاوز 300 إلى 500 مليون دولار فعليًا إذا جرى احتساب الأضرار والخسائر ؛ ويعتبر هذا الرقم هزيل جدًا مقارنة بحجم الاقتصاد السوداني ومتطلبات إعادة الإعمار وتمويل النشاط الإنتاجي والصادرات، ما يجعل رفع رؤوس الأموال أولوية قصوى لا يمكن تأجيلها ؛ وفي هذا الإطار يصبح استقطاب البنوك الأجنبية التي كانت تعمل في السودان مثل بنك قطر الوطني وبيبلوس والبنك الأهلي المصري ومصرف السلام وغيرهم ضرورة وطنية وليست مجرد خيار، لأن دخول هذه المصارف من جديد يحقن النظام المصرفي برؤوس أموال إضافية وخبرات تشغيلية متطورة ويعزز الثقة في استقرار القطاع، كما يساهم في جذب تحويلات السودانيين بالخارج وتمويل المشاريع الكبرى التي يحتاجها السودان في مرحلة البناء المقبلة.
من الناحية العلمية، يُعد دمج البنوك الصغيرة والمتعثرة أحد الحلول المجربة عالميًا لتجاوز الأزمات البنكية الكبرى ، هذا الدمج يرفع متانة رأس المال ويقلل النفقات التشغيلية ويزيد كفاءة إدارة المخاطر، وهو حلّ مثبت بالأرقام والتجارب ؛ ففي الولايات المتحدة، أنقذت سلسلة اندماجات ضخمة القطاع المصرفي من الانهيار خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، أبرزها استحواذ JPMorgan Chase على Bear Stearns وWashington Mutual، وشراء Bank of America بنك الاستثمار الشهير Merrill Lynch، وكذلك استحواذ Wells Fargo على Wachovia. وفي ماليزيا، بعد أزمة آسيا المالية في نهاية التسعينيات، جرى دمج أكثر من خمسين بنكًا وشركة مالية في كيانات قوية مثل Maybank وCIMB Group. أما رواندا، التي خرجت من واحدة من أبشع الحروب الأهلية في أفريقيا، فقد دعمت حكومتها عمليات الدمج لتقوية القطاع، فاستوعب Bank of Kigali كيانات صغيرة كانت على شفا الإفلاس وساهم في تمويل إعادة إعمار القطاعات الإنتاجية.
وفي اليونان بعد أزمة منطقة اليورو، اندمجت بنوك مثل Alpha Bank وEmporiki Bank، بينما استحوذ Piraeus Bank على أصول ATEbank وبنوك أخرى صغيرة، ودمجت National Bank of Greece كيانات فرعية عدة لدعم رسملتها ؛ وفي ألمانيا استحوذ Commerzbank على Dresdner Bank لتكوين كيان أقوى وأكثر قدرة على مواجهة الأزمات ؛ أما إسبانيا فقد دمجت صناديق الادخار التقليدية (Cajas) في مجموعات أكبر مثل Bankia وCaixaBank، ما ساعد على حماية السيولة وثقة المودعين.
كل هذه النماذج تؤكد أن الدمج ليس حلًا طارئًا فقط بل سياسة اقتصادية علمية شريطة وجود حد أدنى لرأس المال وآليات قانونية واضحة لحماية أموال المودعين وضمان الشفافية في التقييم.
لكن الدمج وحده لا يكفي ؛ فالاقتصاد السوداني بحاجة لإعادة توجيه التمويل نحو الأنشطة الإنتاجية الحقيقية مثل الزراعة والصناعة والتعدين التي تخلق قيمة مضافة وفرص عمل مستدامة وتقلل الاعتماد على العملة الأجنبية ؛ كما يجب دعم تمويل الصادرات كأداة أساسية لضمان تدفق النقد الأجنبي وخفض الضغط على سعر الصرف، إذ أن تمويل التجارة الاستهلاكية البحتة وخاصة الاستيراد غير الضروري يستنزف الموارد ولا يبني أي قاعدة إنتاجية.
وهذا التوجه مدعوم بالأدبيات الاقتصادية ونظريات النمو الداخلي وتجارب الدول الخارجة من النزاعات مثل رواندا وأنغولا التي أعادت هيكلة بنوكها لتركّز قروضها على الإنتاج والصادرات بدلاً من التجارة الاستهلاكية، ونجحت بذلك في إعادة تشغيل القطاعات الحقيقية للاقتصاد، وخفض معدلات البطالة، وتحقيق استقرار نسبي للعملة، وتعزيز الثقة في النظام المصرفي من جديد، وهو ما ساعد على جذب الاستثمارات الأجنبية وتحريك عجلة إعادة الإعمار بوتيرة أسرع من الاقتصادات التي بقيت رهينة التمويل التجاري قصير الأجل.
ختامًا، إن إصلاح النظام المصرفي السوداني يتطلب خطة متكاملة تبدأ بوضع حد أدنى واضح لرأس المال، وتشجيع الدمج للمؤسسات المتعثرة، وإعادة بناء الضمانات القانونية، وتحفيز تمويل القطاعات الإنتاجية والصادرات، واستعادة الثقة عبر استقطاب المصارف الأجنبية.
إن إنقاذ ما تبقى من أموال السودانيين والحفاظ على ما تبقى من ثقة يحتاج إلى إرادة حقيقية وقرارات جريئة مبنية على دروس العلم وتجارب الأمم من حولنا، وإلا فإن النزيف سيستمر وسندفع جميعًا ثمنه مضاعفًا في المستقبل.
