المرتزقة الكولومبيون في دارفور: نيران أجنبية في حرب بالوكالة

 صباح المكّي 

لم تعد حرب السودان شأناً داخلياً كما يُصرّ البعض، بل غزواً أجنبياً مكتمل الأركان. مشاهد القتال المنتزعة من هاتف مرتزق كولومبي قُتل في دارفور تكشف الحقيقة: مقاتلون أجانب يقاتلون جنباً إلى جنب مع ميليشيا الدعم السريع، بإشراف وتمويل وتسليح إماراتي. إنّها صفحة جديدة من عولمة الدم، حيث تتحول أرض السودان إلى ساحة اختبار لمرتزقة جُلبوا من وراء المحيطات.

من بوغوتا إلى أبوظبي… إلى دارفور

تاريخ المرتزقة الكولومبيين مع الإمارات ليس وليد اليوم. فمنذ سنوات استقطبت شركات أمنية خاصة في أبوظبي مئات الجنود المسرّحين من الجيش الكولومبي، أغرتهم برواتب مغرية لتوظيف خبراتهم في حروب الآخرين. شوهدوا في اليمن وليبيا والصومال، وها هم الآن في الفاشر، آخر معاقل الدولة في دارفور. هؤلاء ليسوا مجرّد مقاتلين مأجورين، بل أداة استراتيجية في ما يسميه الباحث أندرياس كريغ فى دراسته «كلاب الحرب الإماراتية » التي تبني بها الإمارات نفوذها خارج حدودها.

وثيقة سرّية مسرّبة من الفاشر، مكتوبة بالإسبانية ومؤرخة في ديسمبر 2024، تحمل أوامر عمليات «كتيبة ذئاب الصحراء» الكولومبية. الوثيقة تحدد سلسلة القيادة، وتذكر أنواع الذخائر، بما فيها الفوسفور الأبيض – سلاح محظور في المناطق المأهولة بموجب القانون الدولي. إدراجه في خطة عمليات مرتزقة لا يتمتعون بأي صفة قانونية، يرقى إلى جريمة حرب موصوفة.

الحرب بالوكالة: الاستراتيجية الإماراتية

ليست هذه المرة الأولى التي تُدار فيها حروب بالوكالة عبر المرتزقة. تقرير لمعهد أبحاث السياسة الخارجية (2022) يوضح كيف تحولت الإمارات من دولة صغيرة تعتمد على الحماية الأميركية إلى لاعب متغطرس يمارس إسقاط القوة عبر «ذخيرة بشرية» مستوردة. في اليمن دفعت بمئات الكولومبيين إلى الجبهات، وفي ليبيا موّلت وحدات مسلحة موازية، وفي الصومال زرعت مرتزقة في بوصاصو تحت لافتة «شرطة بحرية». السودان ليس سوى محطة جديدة في هذا المسار.

لماذا الكولومبيون تحديداً؟ لأنهم أرخص كلفة من مرتزقة غربيين، وأكثر تمرّساً بحروب العصابات والقتال الحضري بعد عقود من مواجهة حركة فارك. كما أن توظيفهم يتيح لأبوظبي هامش إنكار سياسي، فيظهر المشهد وكأنه صراع محلي بينما هو عملياً عملية عابرة للقارات.

مهندس الشبكة

اسم العقيد الكولومبي المتقاعد ألفارو كيخانو يبرز كمنسّق رئيس لهذه الشبكة. وفق تحقيقات صحفية كولومبية، نقل كيخانو مئات الجنود المسرّحين عبر عقود أمنية وهمية من بوغوتا إلى أبوظبي، ومنها إلى ليبيا فدارفور. تقف خلفه شركات أمنية واجهة في كولومبيا والإمارات، يديرها بالشراكة مع شخصيات إماراتية نافذة مثل محمد حمدان الزعابى، شهادات أسر المرتزقة القتلى توثق عمليات تجنيد جماعي ومصادرة جوازات وتهديدات لإجبارهم على البقاء في السودان.

من الغزو الأجنبي إلى الجريمة الدولية

الأدلة التي تكشفت لا تحتمل التأويل:

تسجيلات مرئية باللغة الإسبانية في قلب المعارك.
أوامر عمليات سرّية باسم «ذئاب الصحراء» موقعة في الفاشر.
اوامر عمليات “ذئاب الصحراء ” تضمنت استخدام الفوسفور الأبيض كاحد انواع الذخيرة في مناطق مأهولة.
خط لوجستي ثابت: بوغوتا – أبوظبي – ليبيا – دارفور.
شهادات عن تدريب أطفال مجندين على أيدي المرتزقة قرب نيالا.

هذه ليست مظاهر نزاع أهلي، بل أركان غزو أجنبي ممنهج. ومن ثم فإن مسؤولية الإمارات – بوصفها الممول والمجهّز والمشغّل – تضعها في مواجهة اتهامات بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل وربما جرائم إبادة.

الفاشر: بوابة السيادة السودانية

مدينة الفاشر اليوم ليست مجرد ساحة قتال، بل رمز لمعركة السيادة السودانية. لقد صمدت أمام أكثر من 225 هجوماً متتالياً شنّتها ميليشيا الدعم السريع وحلفاؤها، وانكشفت في حصارها حقائق دامغة: أنّ «الأيادي الأجنبية» ليست مجازاً، بل واقعاً يترجَم إلى دماء سودانية.

إنّ صمت العالم على مشهد المرتزقة في دارفور لا يُقرأ كحياد، بل كتواطؤ. فما يجري ليس فقط امتحاناً لقدرة السودان على الصمود، بل اختباراً أخلاقياً للمجتمع الدولي: إمّا أن يُواجه هذا الغزو المأجور بالمساءلة والعدالة، أو أن يُسجَّل في التاريخ أنّ الدم السوداني كان عملة في سوق المرتزقة العالمي.

خاتمة

ما يحدث في السودان اليوم يفضح جوهر الحروب بالوكالة: دول صغيرة تستخدم المال والمرتزقة لإعادة هندسة خرائط إقليمية على حساب دماء الآخرين. الفاشر هي المرآة التي تكشف أنّ هذه الحرب ليست صراعاً داخلياً، بل غزواً أجنبياً تديره أبوظبي بأدوات مأجورة. لقد آن الأوان لفضح هذه الشبكات العابرة للقارات، ولتسمية الأشياء بأسمائها: «ذئاب الصحراء» ليست سوى أداة إبادة مدفوعة الثمن، تُدار من الإمارات لتُنفَّذ على أرض السودان.

Exit mobile version