الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
في تاريخ الحضارة الإنسانية يبقى الفن التصويري بتعدد أشكاله ، وبتطوره وغنا صوره ، هو الأكثر وضوحا لتحديد هوية هذه الحضارة أو تلك .
وفن التصوير بانواعه المتعددة من تشكيل ونحت وعمارة ورسم بالألوان ورسم بالضوء ، جميعها نشاط إنساني يسد حاجتين أساسيتين تحددان رقي المجتمع وهما :
الحاجة النفسية الذوقية ، والحاجة الجسدية الوظيفية .
فمنذ أن كان الإنسان يعيش في الكهوف قبل مئات الألوف من السنين ، كان يحاول تحسين شروط حياته عن طريق تزيين جدران الكهوف وسقوفها بالصور الملونة التي تعبر عن عالمه اليومي أو تعبر عن طموحاته وقتذاك ، وهي طموحات ترمي إلى تحقيق تفوقه على الكائنات الأخرى .
ومن ثم تطور هذا الفعل الانساني إلى نشاط ثقافي حضاري متفاعل مع التاريخ حتى اصبح التصوير بكل أنواعه مرتسما للهوية الثقافية أو الشخصية الثقافية الذي يحققه كل مبدع على خلفيته الثقافية .
وعلى محيط الثقافة العربية مثلا نجد ” الأنا الثقافي ” متحققا في كل أدوات حياته : في مقبض السيف ، والبلاط ، والمنمنات ، والترقينات الإيضاحية في الكتب . ونحسب أن كل ذلك كان مقصودا لذاته ومحاورة لتحقيق الذات بالكشف عن الخصائص الثقافية .
بناءا على ذلك المعنى أسس هذا المقال والذي هو بمثابة نقر على الزويا الرؤيوية في التكوينات البصرية للمصور الفوتوغرافي الحاذق سلمان محمد الحسن متوكل .
وفتراضي الصريح أنه من أكثر المصورين في ساحة الإبداع البصري السوداني قدرة على العطاء التصويري الباهر المتمكن من ارتياد دائرة الشاعرية في إبداعه الضوئي ، وذلك فإن كانت للقصيدة إيقاع موسيقي يخلق نوعا من الاهتزازات اللذيذة بهدف تحريك المشاعر ، فإن الصورة التي يعمل المصور المبدع – سلمان متوكل – على تكوينها تنظر إليها وكأن لها صوتها الخاص وهي طالعة مؤثرة على تنفس وضربات قلوب الرائين للصورة ، ويجد الناظر أنه تورط في كل منظوراتها وأبعاد ظلالها ، وما ذلك إلا الإيقاع الحاضر متحركا في البناء التكويني للقطة المصورة .
وبذات حضور الإيقاع الشاعري ، يتكثف حضور المعنى بشارات تعبر عن مدلولات حضارية في كل تكوين من تكويناته البصرية مؤكدا القول بأن لا قيمة لتعبير فني دون مدلول حضاري .
فالتصوير الفوتوغرافي ، هو من فنون الرسم التي تعرف بأنه فن وعلم التقاط الضوء بواسطة كاميرا رقمية أو فيلم لتسجيل صورة لمشهد ما ، وهو لغة بصرية قوية للتعبير وتوثيق اللحظات ، يجمع بين الإبداع الفني ودقة العلم ، ويشمل أنواعًا متعددة كتصوير المناظر الطبيعية ، والأشخاص ، معتمدًا على عناصر مثل الإضاءة والزوايا والتكوين لالتقاط رؤية المصور للأشياء من حوله ، فالإنسان أصلا هو نظرة تشتهي صورة أخرى وتبحث عنها خلف كل ما تراه .
والتصوير في اشتغالات سلمان محمد الحسن متوكل ، ليس ترفا أو تسليةً ، بل هو شهادة الروح في عالم مادي صامت ، ويذهب مذهب معنى قول المفكر الإسلامي البوسني ” علي عزت بيجوفيتش ” : إنّ الفنَّ ابنُ الدين ، وإن كليهما يصدران عن منبعٍ واحد : توقِ الإنسان إلى المعنى وتجاوُزِه حدودَ المادة .
فثمة معنى وراء كل تكوين جمالي في إبدعيات سلمان متوكل ، بل ونبصر مغذي ثابت لا ينفك من قيمة الشكل بين كل منظور وآخر ، أو بعد من أبعاد خطوط الصورة وظلالها .
فالتاريخ الإجتماعي الثقافي بأبعاده الحضارية ، هو الدال الأقوى اشتعالا وثباتا في نسق إبداعياته البصرية ، على مستويات الألوان وأبعاد الخطوط . حتى في الملمس المرئي نجد ذلك الدال الحضاري – ذهابا وإيابا – بين صورة وأخرى .
مثلما ظل كثير من المشتغلين في ساحة الاشتغالات الإبداعية بأجناسه المختلفة ، من مسرح ، وشعر ، ورواية ، وموسيقى ، وتلوين … الخ يمارسون الحوار مع الآخر من خلال الكشف عن الخصائص الثقافية فإن سلمان متوكل ، وبأدوات فن التصوير الضوئي لم يتخلف عن ذلك الحوار ، بل أرسى تقاليد شاهدة وأسس لها ، متحركا إلى الأعلى ، وبمختلف أنواع لقطاته ، وأشكال التقاطاته من عمق الثقافة مرتبطا ارتباطا عضويا بتراث السودان كما ظل وبقدر كبير يواجه تحدي الآخر الثقافي ، يصور الجغرافيا بتضاريسها الإجتماعية معبرا عن قوس قزح ألوان الثقافة السودانية وهي تمشي مختالة تحت وهج الشمس .. وفي الثقافة قول وأي قول كما قال عبدالباسط سبدرات :
” هي سمت حياة تجعل من نهر النيل ملاذ الختان والعرس واستقبال الميلاد .. هي في الدينكا اكتمال عظمة الخالق في استواء قرون بقرة بلا ضرع ولا يهم أن يكون فاقع لونها .
هي كل مكنون أسرار الأبل حين يسوقها حداء في أرض تستعصي على الجرار والمصفحات . هي عند الحمر ليس إلا الحمري الذي يباهي العجل الحنيذ .. هي ازدهاء البفرة في ماعون يفك ريق القبيلة بعد أو قبل بداية الصيد .. هي اكتمال فحولة الحفير في منتصف الخريف .. هي العراقي والطاقية المسترخية على البعد الخامس من رأس العريس ، هي نغمة في جوف وترها المردوم والدليب ورزم دلوكة خمج وجعها خبير بسر استنطاق الوعول .. هي طقوس الصفاح وسيرة الدخلة وبرش مأتم رجل ضرس من أهل المروءة .. ”
وتلك الشاعرية التي وصف بها عبدالباسط سبدرات الجغرافيا الثقافية السودانية ، نجد أن سلمان محمد الحسن متوكل قد حول ذلك القول نفسه إلى معادل بصري ، استطاع وبجدارة باهرة أن يلتقط كل تضاريس وسهوب خصائص شخصياتنا السودانية المائزة ويرسمها بالضوء مبدعا تكوينات بصرية تشهق بجماليات تترفع عن الفجاجة ، ويضع على الأوراق صورة السودان القارة الثقافية والرقعة الجغرافية التي شهدت أعرق الحضارات منذ فجر التاريخ .
أوجد سلمان متوكل لنفسه مدرسة خاصة ، ومرسما ضوئيا متفردا بلغة تصويرية جديدة أصيلة ومعاصرة إستلها من فرائد الأشياء في السودان وتراثه المحلي .
وبذلك أرى أنه نحى ذات المنحى الذي نحى إليه الفنان التشكيلي إبراهيم الصلحي والذي لخصه في مقولته الباذخة قائلا :
” خرجت من السودان وعدت ثانية إليه وفجأة أخذت أنظر من حولي وبدأت أبحث عن الأشياء من أجل التصميم وكانت تأخذني التصميمات والزخارف السودانية مأخذها تلك التي تشملها الأشغال اليدوية وما يفعله الفلاح البسيط في تزيين حياته من زخارف بدائية ، وخطوط منحنية وتصوير وأعتقد كم راعني جمال تلك الأشياء وفجأة أصبت بهزة قوية واجهتني ظللت أعيشها طوال حياتي كأنني لم أرى ذلك من قبل ، ثم وفجأة تركت كل شيء وخرجت إلى العراء في الصحراء متأملا ثم رجعت بنظرة مختلفة نحو الأشياء ويحدث هذا كلما أخذت أتأمل في كل شيء صنعه الإنسان السوداني ، في منزله ، في أسرته ، في بساط صلاته ، في سرجه على ظهر جمله ، أو ظهر ثوره ، ذلك ما نال مني وبدأت أرقب وأرسم ” …
وتجدر الإشارة إلى أن ما قام به إبراهيم الصلحي ، قام به أيضا من الفنانين التشكيليين عثمان وقيع الله وأحمد محمد شبرين وآخرين . وخرجوا بحركة الفنون التشكيلية السودانية الحديثة من الإطار الأكاديمي الضيق إلى رحابة الفكر الإجتماعي العام ، وقاموا بدور الحوار الثقافي .
على اتساع ذلك المعنى نفسه مد – سلمان – بصره في فضاءات جهات السودان وحفر بمنظوراته الرؤيوية وغاص في أعماق تربة صور الثقافة السودانية التي تقوم على أرضية من التراث الحضاري لأهل السودان بعناصرها الاسلامية العربية في عبقرية متميزة بالأفريقي الأصيل .
إذ ” لا قيمة لفن بلا مدلول حضاري ” وتلك من مقولات الفنان التشكيلي الدكتور أحمد عبدالعال مفترع مدرسة الواحد التشكيلية ، والذي أجد أن سلمان متوكل بمنجزه الإبداعي يقف في مركز ذات الفعل الرشيد مستصحبا ذات استدركات الدكتور أحمد عبدالعال في إبداعاته القصصية المغتذية برسوماته :
” وقد يتراءى لك في جذوع الرجال والنساء طلع نضيد وهم يخوضون نهر الرجاءات الطويلة ، نعم هذه وجوه من ظلوا يوقدون قناديل حبهم لعقود وعقود في مصر الفاطمية ، وذاك طيف من ظل واقفاً لقرون على شرفة في اشبيلية يراني بعين خياله ولا يذود عني الضربات ، أناديه بين اليأس والرجاء وأذود عن نفسي بترديد اسمه القديم ” .
ومزيدا من تأكيد ما رأيته في منجز سلمان ، أرى بالضرورة أن أستعير لسان الكاتب زين العابدين ابراهيم من كلمته البلغاء قائلا :
” إن الفنان سلمان محمد الحسن متوكل ليس مجرد مصوّر فوتوغرافي ، بل هو شاعر الضوء ، ورسّام اللحظة ، وحارس الجمال السوداني في زمنٍ يحتاج إلى من يوثّق ملامحه بصدقٍ وإحساس . بعدسته المبدعة ، يحوّل التفاصيل البسيطة إلى لوحاتٍ تنبض بالحياة ، ويروي حكايات الوطن في صمت الصورة التي تتحدث بآلاف المعاني .
يحمل في قلبه حب السودان ، وفي عينيه ضوءه الباهر ، فينثره حيثما حلّ ، سواء في معارضه بالمملكة العربية السعودية أو في مشاريعه الفنية التي تؤرّخ لذاكرة الوطن وتوثّق نبض الإبداع السوداني .
سلمان متوكل هو نموذج للفنان الواعي برسالته ، الذي لا يكتفي بالتقاط الجمال بل يصنعه ، ولا يطارد الضوء بل يخلقه من شغفه وإيمانه العميق بأن الصورة يمكن أن تكون رسالة بناءٍ وسلامٍ وحبٍّ للحياة .
هو فخر لكل سودانيٍ يرى في الفن طريقاً للنهوض ، وفي الإبداع وسيلة لحفظ ملامح الإنسان ”
وتأسيسا على ذلك أرى أن سلمان محمد الحسن متوكل المصور الفوتوغرافي وبمساره الإبداعي الطويل قد حوى إنتاجه تنوعا في الرؤى والتصورات . وأثبت ريادته ومقدرته على الاستكشاف والرؤيا منطلقا من تطلعات وأماني أهل السودان ، كاشفا لتاريخه ، مساهما على الحفاظ على خصوصية الثقافة السودانية .
كما أن الناظر لمنجزات سلمان محمد الحسن متوكل التصويرية يجد أنها تشربت بمختلف المناخات وتضاريس البيئات السودانية ، فجاءت جميع تكويناته البصرية المبدعة متجاوبة مع حركة الإنسان والطبيعة فتكتسب شاعرية تتساوى مع شاعرية محمد عبدالحي في قصيدته ” العودة إلى سنار ” :
” أمس رأينا أوّل الهدايا ضفائر الأشنةِ
والليفِ على الأجاجِ من بقايا الشجر الميت
والحياة في ابتدائها الصامتِ
بين علق البحارْ في العالمِ الأجوفِ
حيث حشرات البحرِ في مَرَحِها الأعْمَى
تدب في كهوفِ الليفِ والطحلبِ
لا تعي انزلاقَ الليلِ والنهارْ
وحمل الهواءْ رائحةَ الأرضِ ،
ولوناً غير لون هذه الهاوية الخضراءْ وحشرجات اللغة المالحة الأصداءْ ” .
