رأي

المحكمة الدستورية… وعد “البرهان” المؤجل وجريمة “قحت” المستمرة..!

ناجي الكرشابي 

المحكمة الدستورية ذلك الغائب الذي يفضح القوى السياسية التي كانت ولا تزال تتشدق بالحريات والديمقراطية ثم تذبحها نهارًا جهارًا وعلى رؤوس الأشهاد، أقول إن المحكمة الدستورية ليست ترفًا قانونيًا يمكن تأجيله أو تجاهله، بل هي الحارس الأخير للحقوق، والدرع الذي يحمي الشعب من تغوّل السلطة، أيًّا كان لونها أو شعارها.

وكم هو مثير للعجب — بل للغضب — أن نتأخر في تشكيلها حتى الآن، منذ وعد القائد البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر، أيام تلك القرارات التاريخية التي أكاد أجزم أنها لو طُبِّقت بصرامة وفي تلك المواقيت التي حددها البرهان لما وصلنا إلى هذا الحال المائل. واليوم نحن أحوج ما نكون إلى وجود المحكمة الدستورية لتعيد للدولة توازنها، وللقانون هيبته، وللشعب ثقته.

الحقيقة المرّة أن قحت، بقيادة “الهمبول” حمدوك، تعاملت مع المحكمة الدستورية كما يتعامل المجرم مع الدليل القاطع على إدانته… أزاحوها من طريقهم لعلمهم أنها المرآة التي لا تعرف التجميل، وأنها كانت ستضع مصادرة ونهب الأموال والممتلكات العامة والخاصة بالباطل، تحت لافتة “إزالة التمكين”، تحت مجهر العدالة، لتكشف أنها كثيرًا ما كانت بلا بيّنة، وأن التمكين الجديد كان يُزرع بعمق، بينما يتغنون هم بخطابات الثورة والحرية تغطية لهذا الجرم، كما قالت الحكمة القديمة: “إذا كان الحرص مبالغًا فيه فاعلم أنه تغطية لجرم عظيم”.

أقول هذا بين يدي نتائج استطلاع أجراه مركز الخبراء العرب للخدمات الصحفية ودراسات الرأي العام حول تأخير تشكيل المحكمة الدستورية، شارك فيه 61,249 مواطنًا، جاءت نتائجه على النحو التالي: 71.9% من المشاركين أكدوا أن الحكومة لم تُعطِ تشكيل المحكمة أولوية، بينما 68.1% يرون أن التأخير مقصود لأهداف سياسية، و79.1% يعتقدون أن غيابها ساعد على إفلات مرتكبي الجرائم الخطيرة من العقاب. بل إن 87.8% رأوا أن غياب المحكمة أصاب الحقوق والحريات في مقتل، و71.4% فقدوا الثقة بالقضاء الوطني نتيجة هذا الغياب.

هذه النتيجة بمثابة صرخة شعبية بأن ما جرى حول المحكمة الدستورية كان جريمة سياسية مكتملة الأركان، نفذتها قحت بوعي كامل، لتبقى قراراتها فوق أي رقابة، ولتستمر في إدارة الدولة من خلف ستار المصالح والمنافع الشخصية والإملاءات الخارجية، حتى صارت قرارات بعض السفراء أقوى من مؤسسات الحكم نفسها. وهل أدلّ على ذلك إلا ما كانت تنقله وكالة “سونا” في ذلك الوقت من تعليمات وتدخلات في شؤون البلاد الداخلية من قبل عدد من السفراء..!؟

لكن المدهش حقًا، ما الذي يجعل المحكمة الدستورية غائبة الآن في ظل حكومة الأمل، وقبلها إبان تولي مجلس السيادة شؤون البلاد كلها؟ لا أدري، ولا أرى مبررًا أو مسوّغًا قانونيًا لذلك، إلا أنها “المهلة” التي ضربت بلادنا. نحن في هذا المنعطف الخطير، لا بد من القول بلا مواربة: إن المحكمة الدستورية يجب أن تعود قوية ومستقلة، وأحكامها نافذة فوق أي وثيقة انتقالية أو اتفاق سياسي. فمن يرفض تشكيلها، أو يماطل، أو يختبئ خلف الذرائع، إنما يرفض العدالة ذاتها. والدولة التي ترفض العدالة، لا تلوموا أحدًا إذا سقطت في مستنقع الفوضى، حيث القانون عصًا غليظة في يد الأقوى، لا ميزانًا بين المتخاصمين.

وهنا، أوجّه نداءً مباشرًا إلى مجلس السيادة ومجلس الوزراء: عودة المحكمة الدستورية لم تعد خيارًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية عاجلة، خاصة بعد أن ظهرت بعض التباينات في الرؤى قبل تشكيل الحكومة بين قوى اتفاق جوبا والقائد البرهان. فالمحكمة الدستورية هي الإطار القانوني الذي سيعالج هذه الخلافات بأفضل من المشاحنات السياسية التي لا تزيد الأزمة إلا تعقيدًا، خصوصًا في ظل هذا الوضع الراهن المليء بالمخاطر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى