رأي

الكوز فوبيا.. الخوف الذي ابتلع الوعي السوداني

عبدالناصر سلم حامد

في السودان، لا تبدأ المعارك بالرصاص دائمًا. أحيانًا تبدأ بالكلمة، وبالخوف من كلمة، حين يتحول “الانتماء” نفسه إلى تهمة. منذ سقوط نظام البشير في أبريل 2019، ظلّ السودان عالقًا في دائرةٍ مغلقة من الاتهام والتخوين والإقصاء، حيث تحوّلت السياسة إلى مرآةٍ تعكس هشاشة الوعي الجمعي أكثر مما تعكس تناقضات الواقع. في قلب هذه الدائرة وُلد مصطلح “الكوز فوبيا” — الخوف من الإسلاميين — وهو ليس مجرد سخرية لغوية أو موقف سياسي، بل تعبير عن أزمةٍ أعمق في الوعي الوطني نفسه، أزمةٍ جعلت الخوف من الآخر بديلاً عن القدرة على التعايش معه.
الكوز فوبيا لم تبدأ كحملة كراهية صريحة، بل كاستجابةٍ نفسية مفهومة بعد ثلاثة عقود من حكمٍ أحادي هيمن فيه الإسلاميون على مفاصل الدولة. لكنها سرعان ما تجاوزت فكرة المحاسبة لتتحول إلى هوسٍ جماعي بالاجتثاث، إلى حالة من “الهوس الهوياتي” حيث تُبنى السياسة على نفي الآخر لا على الاعتراف به. فبدل أن تكون الثورة لحظة ميلادٍ جماعي لمشروع دولةٍ جديدة، أصبحت لحظة محاكمةٍ ممتدة للماضي، وكأنّ السودان لا يستطيع أن يعيش إلا وهو يحاكم نفسه.
في جوهرها، الكوز فوبيا ليست خوفًا من الإسلاميين وحدهم، بل من فكرة العودة إلى التاريخ، من مواجهة سؤالٍ مؤجل: لماذا فشلت الدولة السودانية في أن تكون دولة لكل مواطنيها؟ لذلك فإن معاداة الإسلاميين في هذا السياق لا تنفصل عن أزمةٍ أوسع هي أزمة غياب مشروع وطني جامع. فمنذ الاستقلال، ظل السودان ينتقل من إقصاءٍ إلى آخر: عسكري يقصي المدنيين، ومدني يقصي العسكريين، وثائر يقصي من سبقوه باسم الثورة، حتى بات الإقصاء هو الثابت الوحيد في معادلة التغيير.
الإسلاميون في السودان ليسوا طارئين على المجتمع، بل جزء من بنيته التاريخية والفكرية. منذ الستينيات، شاركوا في تشكيل النقابات والجامعات والإدارة، وتركوا بصمتهم في مجالات التعليم والتنظيم والدعوة والسياسة. يمكن — بل يجب — نقد تجربتهم في الحكم وما رافقها من تجاوزات وفساد، لكن لا يمكن إنكار حضورهم الاجتماعي الواسع ولا إنجازاتهم المؤسسية. فالديمقراطية لا تقوم على محو فئة، ولا على انتقامٍ باسم الحرية، بل على التعددية والتنافس المسؤول.
عقب الثورة، تبنت حكومة عبد الله حمدوك شعار “تفكيك التمكين” في مسعى لتفكيك الدولة العميقة. غير أن التنفيذ انزلق سريعًا إلى حملة اجتثاث واسعة بدوافع سياسية. فبحسب العربي الجديد (2021)، تم فصل أكثر من 664 موظفًا من مؤسسات الدولة، من بينهم قيادات مهنية في الطيران المدني ومطار الخرطوم، بينما أشارت الأناضول (مارس 2021) إلى أن أكثر من 2100 موظف تقدموا باستئناف ضد قرارات الفصل. كما فُصل مئات الإعلاميين في حملات طالت مؤسسات رسمية وخاصة. هذه الأرقام تكشف أن “تفكيك التمكين” تحوّل في الواقع إلى “تمكينٍ معكوس”، أفقد الدولة كفاءاتٍ وخبراتٍ وطنية ورسّخ شعورًا بالظلم لدى شريحةٍ واسعة من السودانيين.
في علم الاجتماع السياسي، يُصنّف هذا النمط من الممارسات ضمن ما يُعرف بـ”الوصم الجماعي”، أي تحويل الانتماء السياسي إلى خطيئة اجتماعية تُلاحق الأفراد. وكما يقول عالم الاجتماع إرفنغ غوفمان، الوصم لا يعاقب الشخص فحسب، بل يُسقط عنه الاعتراف بإنسانيته. في السودان، صار وصف “كوز” أقرب إلى تهمةٍ أخلاقية تبرّر الإبعاد والشيطنة، وصار كثيرون يخشون مجرد التعبير عن آرائهم حتى لا يُلصق بهم هذا اللقب.
جزء من المشكلة ينبع من “الذاكرة الانتقائية” للنخبة السياسية، التي تستدعي من الماضي ما يخدم خطابها وتُقصي ما سواه. فبينما جرى تضخيم أخطاء الإسلاميين، جرى تجاهل إنجازاتهم في مجالات التعليم والبنية التحتية والخدمة المدنية. وهكذا تحوّلت الذاكرة إلى أداةٍ للفرز، لا وسيلةٍ للفهم، تمامًا كما حدث في العراق بعد 2003 حين أدى اجتثاث البعث إلى انهيار الدولة وصعود الجماعات المتطرفة. التجارب نفسها تكررت في الجزائر ومصر، حيث تحوّل الإقصاء إلى ذريعةٍ للاستبداد وإطالة عمر الأزمات. السودان اليوم يقف في مفترقٍ مشابه، يواجه خيارين: إما أن يُكرّر أخطاء الآخرين، أو أن يتعلم كيف يحوّل الذاكرة إلى مصالحة.
الكوز فوبيا لم تعد فقط ظاهرةً داخلية، بل تحولت إلى ورقة ضغطٍ خارجية. بعض القوى الإقليمية التي تخشى صعود الإسلاميين غذّت هذا الخطاب إعلاميًا وسياسيًا، وسعت لتصوير أي دورٍ لهم كتهديدٍ للاستقرار. وهكذا أصبح الخوف من الإسلاميين أداةً لتبرير تدخلاتٍ أجنبية وتمرير أجنداتٍ خارجية تحت شعار “المدنية” و”الديمقراطية”. في واقع الأمر، الإقصاء هو ما فاقم ضعف الدولة وفتح الباب أمام المليشيات والتدخلات الخارجية، بينما ظلّ الإسلاميون — رغم كل خلافاتهم — جزءًا من القوى الوطنية التي ترى في الجيش ركيزةً لوحدة البلاد.
حين اندلعت حرب الكرامة في أبريل 2023، وواجه السودان خطر التفكك على يد قوات الدعم السريع، برز الإسلاميون مجددًا في المشهد، ولكن بصورةٍ مختلفة. لم يعودوا حزبًا حاكمًا يسعى للسلطة، بل مكوّنًا وطنيًا يدافع عن بقاء الدولة. وقفوا إلى جانب القوات المسلحة، وساهموا في دعم المجهود الحربي والإغاثي، وشاركوا في حملات التوعية والمساعدات. لم يكن ذلك تحالفًا سياسيًا بقدر ما كان موقفًا أخلاقيًا ووطنيًا. في تلك اللحظة، تغيّرت الصورة في الوعي الشعبي: فبدل “الكيزان الذين يجب محوهم”، صار كثيرون يرون فيهم شركاء في الدفاع عن الوطن.
هذه اللحظة أعادت تعريف الإسلاميين في المعادلة الوطنية، وفتحت الباب أمام ما يمكن تسميته بـ”إعادة الاعتراف” — أي قبولهم كمكوّنٍ وطني له مكانه في الساحة السياسية والاجتماعية. لقد انتقلوا من موقع السلطة إلى موقع المسؤولية، ومن خطاب الهيمنة إلى خطاب المشاركة، في وقتٍ بدا فيه أن السودان نفسه بحاجة إلى كل أبنائه دون استثناء.
لكن، رغم كل ذلك، ما زالت بعض القوى السياسية تتعامل مع الإسلاميين كـ”شبحٍ سياسي” أكثر منهم واقعًا اجتماعيًا. الكوز فوبيا تحولت من حالة خوفٍ إلى تجارةٍ سياسية تُستخدم لتبرير الفشل أو إقصاء المنافسين. كلما تعثرت مفاوضات أو انهارت مبادرة، يُستدعى فزّاع الإسلاميين مجددًا. بهذا الشكل، أصبحت الفوبيا صناعةً قائمة بذاتها، تشبه السوق التي تقتات من الخوف وتعيد إنتاجه. إنها ليست سياسة، بل آلية دفاعٍ نفسي لجماعاتٍ تخشى مواجهة الذات.
السياسة في السودان اليوم أشبه بمرآةٍ مكسورة، كل طرف يرى فيها عيوب الآخر ولا يرى نفسه. القوى المدنية لا تثق في الإسلاميين، والإسلاميون لا يثقون في المدنيين، والعسكر يقفون بينهما كوصيٍّ قلق على دولةٍ تتهاوى. في هذا المناخ، تغيب الثقة ويغدو التاريخ أداةً للصراع لا وسيلةً للتعلم. العدالة الانتقالية نفسها — التي كان يُفترض أن تكون جسرًا نحو المصالحة — تحولت إلى أداةٍ للانتقام، وفقدت معناها الأخلاقي.
تجارب العالم تقدم دروسًا عميقة في كيفية الخروج من مثل هذه الدوائر. فبعد الحرب العالمية الثانية، لم تبنِ أوروبا الديمقراطية على اجتثاث النازيين، بل على دمج المجتمع كله في مشروعٍ وطني جديد. وفي جنوب أفريقيا، بعد عقودٍ من الفصل العنصري، كان شعار مانديلا واضحًا: “لا حرية بلا غفران”. أما رواندا، التي شهدت واحدةً من أبشع الإبادات في التاريخ الحديث، فقد أعادت بناء نفسها عبر إدماج الجميع في سردٍ وطنيٍ موحّد. السودان ليس أقل قدرة على فعل الشيء نفسه، لكنه يحتاج أولاً إلى شجاعة الاعتراف المتبادل.
في النهاية، الكوز فوبيا ليست مجرد خوفٍ من الإسلاميين، بل خوفٌ من مواجهة الحقيقة: أن السودان لا يمكن أن يُبنى على نصف مواطنيه. تجاوزها لا يعني تبرئة أحد، بل إعادة تعريف الوطن على قاعدةٍ جديدة: العدالة لا تعني الإقصاء، والمشاركة لا تُلغي المحاسبة. فالوطن لا يقوم على الذاكرة الانتقائية، بل على الذاكرة المشتركة التي تتسع للجميع. السودان لا يُبنى على اجتثاث أحد، بل على شراكة الجميع. قد نختلف في الرؤى والمناهج، لكننا نتفق على وطنٍ واحدٍ يستحق الحياة. والمفارقة أن الخلاص من عقدة الكوز فوبيا لن يكون انتصارًا للإسلاميين وحدهم، بل للسودان بأسره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى