القرن الأفريقي: الإستقرار المفقود والرفاه المنشود!!
السفير بدر الدين عبد الله
إثيوبيا وإرتريا والصومال وجيبوتي، تشكل معاً النتؤ الشمالي الشرقي من القارة الأفريقية المعروف، جغرافياً، بالقرن الأفريقي. وعُرف قديماً بشبه الجزيرة الصومالية، ويعتبر رابع أكبر شبه جزيرة في العالم إذ تبلغ مساحته 1.9 مليون كلم مربع وعدد سكانه حوالي 130 مليون نسمة، تمثل إثيوبيا حوالي 80% منهم. ويشمل التعريف الجيوسياسي الأوسع للمنطقة (Great Horn of Africa) السودان وجنوب السودان وكينيا ويوغندا.
تكمن الأهمية الجيوسياسية الاستراتيجية للمنطقة في وقوعها على طول الحدود الجنوبية للبحر الأحمر وامتداداته على خليج عدن والمحيط الهندي، وهو بذلك يشترك في حدود بحرية مع شبه الجزيرة العربية وغرب آسيا بأهميتهما المعروفة. وإرتبطت العلاقات مع شبه الجزيرة العربية بصفة خاصة بالتأثيرات الثقافية المتبادلة، خاصة الإسلام ، حيث تحولت الرقعة الصومالية برمتها للإسلام وعرفت مقديشو بإسم “مدينة الإسلام”.
عُثر على أقدم حفريات الإنسان القديم الذي عاش قبل مئات السنين في القرن الأفريقي، مما يجعل المنطقة مهداً مهماً للثقافات والبيولوجيا الحديثة. كما شهد التاريخ القديم عدداً من الممالك التي أشهرها مملكة أكسوم المسيحية وسلطنة شوا الإسلامية. وبدأت أول إتصالات دبلوماسية للمنطقة مع الممالك الأوروبية في حقبة مملكة أكسوم وتعززت بعد افتتاح قناة السويس، لتتنافس القوى الإستعمارية (إيطاليا، بريطانيا ، وفرنسا) على المنطقة، ولتقوم بهندسة بيئتها الجغرافية السياسية، التي تؤثر على المنطقة سلباً حتى اليوم.
منطقة القرن الأفريقي بامتداداتها الجيوسياسية تمتلك قدراً مهماً من الموارد الطبيعية، فهي المصدر الأوحد والمعبر الأهم لمياه النيل وتتمتع بطاقات كهرومائية كبيرة ومصادر هائلة للطاقات المتجددة ، والأراضي الزراعية الواسعة الخصبة والمياه الوفيرة والمتعددة المصادر، والثروة الحيوانية والبحرية الضخمة والمعادن المتنوعة التي تتعطش الدول الصناعية لها، بالإضافة للأهمية الجيوإسترتيجية كحلقة وصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي، وممر بحري مهم للتجارة النفطية بين الدول المنتجة والمستهلكة.
أسباب الأزمات المتوالدة في القرن الأفريقي:
تمثّل الصراعات والحروب الداخلية والمليشيات المسلحة أحد أهم أسباب النزاعات المتكررة والمتناسلة في منطقة القرن الأفريقي، واوضح تجلياتها في الحرب الصومالية وحروب السودان قبل وبعد إنفصال الجنوب، ولم تنجو اثيوبيا أيضاً من حروب وصراعات مسلحة لا تنتهي إلا لتشتعل مرة أخرى.. وقد إندلعت مؤخراً بين الحكومة المركزية وإقليم التقراي، ثم بين الجيش الإثيوبي ومتمردي الأمهرا (فانو). ومثلما تنشأ الصراعات الداخلية لأسباب عرقية كما في جنوب السودان وإثيوبيا فإنها تندلع أيضاً لطموحات سياسية كما حدث مؤخراً في السودان. ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك لحركة نزوح وهجرة ولجوء السكان داخليا وخارجياً ومعاناة إنسانية كما يؤدي لضعف التنمية والخدمات وتدني الأداء الإقتصادي وربما يصل إلى حالة الدولة الفاشلة كما تمظهر ذلك في الحالة الصومالية.
لايمكن تجاوز السياسات الإستعمارية في أسباب الصراعات والحروب الداخلية في منطقة القرن الأفريقي ، فقد وَضَعت تلك السياسات البذور لشجرة الصراعات ورعتها وتعهدتها بعد تحرر الشعوب من إستعمارها المباشر بالقوانين التي فرضتها للتفرقة بين المناطق والعرقيات المختلفة داخل البلاد كما في الحالة السودانية (قانون المناطق المقفولة) أو بإعطاء إمتيازات خاصة لعرقية دون أخرى وهو نهج إستعماري راسخ ، أو بالتقسيم الجزافي للمنطقة بحدود مصطنعة لا تراعي أسباب الإستقرار والتجانس داخل المكونات الاجتماعية والإثنية وفيما بينها، وخير مثال لذلك قبيلة العغر التي توزعت على ثلاث من دول الإقليم (إثيوبيا وإرتريا وجيبوتي) والإثنيات الصومالية التي توزعت على كينيا وإثيوبيا وجيبوتي.
الإرث الإستعماري بالإضافة للسياسات غير الرشيدة للحكومات الوطنية ما بعد الإستعمار ، تسببت في صراعات عنيفة وحروب بين دول المنطقة، ولعل حرب الأوغادين بين إثيوبيا والصومال ثم الحرب الإثيوبية الأرترية المدمرة أوضح النماذج في هذا الشأن، مما أدي لإنهاك الدول على ضعفها ورفع وتيرة التدخلات الخارجية في المنطقة وتوجيه الموارد والطاقات الشحيحة نحو الوجهة الخاطئة ليؤدي لضعف عام يشل المنطقة ويجعلها الأكثر فقراً على مستوى القارة الأفريقية والعالم أجمع ويجعلها نهباً لأجندة أجنبية لا تراعي إلا مصالحها.
كان من الطبيعي في ظل هذه الأوضاع أن يكون التخلف الإقتصادي والإجتماعي هو سيّد الموقف في المنطقة رغم توفر الموارد الطبيعية وأسباب النهضة، فالناتج القومي الإجمالي لدول الإقليم هو الأدنى عالميا ، إلا من فلتات غير مستدامة كما حدث في السودان إبان فترة إستخراج البترول (2000-2011) وإثيوبيا قبل حرب التقراي. ولعل كينيا ويوغندا هما الإستثناء في إستمرار معدلات نمو معتدلة نسبياً رغم ما يشوبهما من مظاهر الفساد وسوء الإدارة الحكومية. ويلعب التغيّر المناخي الذي تأثرت به المنطقة بدورات من الجفاف والفيضانات ، دوراً مهماً في زيادة حدة الأزمات الإقتصادية والفقر مقرونة بمعاناة إنسانية مأساوية ومجاعات .. خاصة في الصومال وبعض الأقاليم الإثيوبية. ويتسبب ذلك أيضا في مهددات أمنية بخلق بؤر للصراع العنيف بين المجموعات السكانية (الرعاة والزرّاع) المتنافسة على الموارد الطبيعية الشحيحة في تلك الأقاليم، وتَبَدّى ذلك في أزمة دارفور، ويشكل ذلك، في ذات الوقت، مدخلاً لأجهزة الاستخبارات الأجنبية والمنظمات الإنسانية الدولية بأجندتها المشبوهة.
التنافس الدولي والإقليمي على الموارد والنفوذ في المنطقة ، جعلها عرضة للمزيد من المخاطر ، فطموح إثيوبيا لإيجاد منفذ بحري لها ، كدولة حبيسة، دفعها لتوقيع مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال الإنفصالي مقابل الإعتراف بالإقليم كدولة مما أغضب الحكومة الصومالية وأدى لتقاربها مع مصر ، في شكل بروتكول تعاون عسكري مع الصومال ، لكسب نقاط ضد إثيوبيا في إطار الصراع بين الجانبين فيما يتعلق بمياه النيل وسد النهضة ، مما جعل المنطقة في حالة توتر شديد وعلى شفا صراع نوعي بتكتل الصومال وأرتريا مع مصر في مواجهة إثيوبيا.
يجيء ذلك والصراع الدولي على أشده للإستفادة من الميزات الجيوسياسية الاستراتيجية لموقع المنطقة وإطلالتها على المياه الدولية. فمن هذه الدول والقوى الدولية مَن وضع أقدامه على شواطئ القرن الأفريقي في شكل قواعد عسكرية وموانئ وإتفاقيات إقتصادية ودفاعية مثل تركيا وإسرائيل والصين وأمريكا والإمارات، والصراع يحتدم بينها وبين لاعبين آخرين مثل روسيا والهند لتحقيق مكتسبات للسيطرة والنفوذ.كما أن حرب غزّة وإستهداف جماعة الحوثي اليمنية للسفن العابرة والملاحة الدولية جعل المنطقة إمتدادا لمنطقة الشرق الأوسط الملتهبة وضاعف من أهميتها.
الولايات المتحدة الأمريكية في إطار حربها المزعومة على الإرهاب أنشأت في العام 2007 قوات خاصة بأفريقيا (أفريكوم) والتي بدأت مهامها إنطلاقاً من قاعدة عسكرية في مدينة إشتوتغارت – ألمانيا وقامت فيما بعد بتأسيس قاعدة عسكرية في سواحل جيبوتي، لتلعب دوراً بارزاً في زعزعة الاستقرار في المنطقة عامة والصومال بصفة خاصة عبر عملياتها العسكرية ضد عدد من الجماعات المسلحة.. من أبرزها حركة الشباب الصومالية. وقد أقرّ الصحفي الأمريكي جيريمي سكاهيل بذلك في كتابه (حروب قذرة) ،في معرض إنتقاده لأسلوب إدارة الرئيس بوش الإبن في الحرب على الإرهاب، بقوله (إن الصعود السريع لحركة الشباب الصومالية ، كان رداً مباشراً على عقد كامل من السياسة الكارثية الأمريكية وهي السياسة التي عزّزت كثيراً التهديد الذي سعت لإخماده).
الطريق إلى المستقبل:
لامناص من الإستقرار الداخلي بسياسات تتجاوز الإرث الاستعماري وأزمة الدولة الوطنية ما بعد الاستعمار والعرقيات الضيقة، وتعلّي من القيم الوطنية المشتركة والتعايش السلمي، ولا يتحقق ذلك إلا بقيادات رشيدة حازمة وعادلة تحسن إدارة التنوع لتسرّع عملية بناء الأمة وتوجه الطاقات الوطنية نحو البناء والعلاقات مع دول الجوار والإقليم نحو التشارك والتعاون والتكامل وتبادل الإستفادة من التجارب في مناحي الحياة المختلفة لتجنب الصراعات الداخلية ووضع حد للتنافس السلبي الضار مع الجوار الإقليمي والحد من التدخلات الأجنبية. في هذا الصدد فإن السودان، بغض النظر عمّا يعانيه في الوقت الراهن، لديه فرصة بما يتمتع به إنسانه من قبول وبصلاته الثقافية والإجتماعية والإثنية في المنطقة وبإستضافته بكل أريحية لملايين اللاجئين على مدى عقود ، أن يلعب دوراً محورياً في تجاوز حالة الصراعات في المنطقة والتحول نحو التعاون والشراكة والتكامل ، إذا ما أحسن توظيف ما يمتلكه من أدوات بنظرة بعيدة الأفق.
ولحسن الطالع فإن السودان كان بعيداً عن الأزمة الناشبة بين إثيوبيا من جهة والتكتل الثلاثي لمصر والصومال وإرتريا من جهة أخرى مما يجعله مؤهلاً لنزع فتيل هذه الازمة ولعب دور بناء في تحقيق السلام والإستقرار في المنطقة.
الإستقرار الداخلي أيضاً لن يستمر ويتماسك إلا بحسن إدارة الموارد وتعظيم الإستفادة منها ببناء شراكات بناءة إقليمياً ودولياً على مبدأ الإستفادة المتبادلة (win-win) ، ومن بعد يتجه الإقليم من خلال الهيئة الحكومية للتنمية (الايغاد) ، التي تتشكل عضويتها من دول القرن الأفريقي بإطارها الحيوي، للإندماج في السوق الأفريقي الكبير الذي يتبلور بإندماج التكتلات الثلاث الكبرى بالقارة (مجموعة التنمية لأفريقيا الجنوبية “سادك” والسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا “كوميسا” ومجموعة شرق أفريقيا).ولكن التكتلات شبه الإقليمية مثل الإيغاد إذا لم تستطع الدول الأعضاء تدبير ميزانيتها تقع ،لا محالة، فريسة سهلة لأجندة من يموّل برامجها لتنقلب المنظمة من خدمة الأعضاء للإيقاع بهم وتوظيفهم لخدمة الاخرين.
الدعم الإقليمي والدولي للمنطقة لا يتأتى إلا بتحقيق الإستقرار الداخلي والتعاون والشراكة والتكامل بين دول المنطقة من خلال تبادل المنافع عبر الحدود أو المشروعات المشتركة العابرة للحدود. ونموذج دولة رواندا خير دليل على انسياب الإستثمارات متى ما توفرت الأسباب الداخلية والرغبة في الانفتاح الإقليمي. فرواندا اليوم تحظى بإهتمام عالمي وتدفق الإستثمارات والعون الخارجي بفضل حالة الإستقرار التي تتمتع بها بعد سنين عجاف من الصراع العرقي العنيف وحرب الإبادة التي شهدتها ، ويمثل ذلك أمل في أن الرفاه المنشود يمكن أن يتحقق وأن مستقبلاً مشرقاً للمنطقة ليس ببعيد إذا توافرت الإرادة الوطنية والقيادة الرشيدة والتعاون الإقليمي الإيجابي الفعّال… وتلك شروط النهضة المرتجاة.