أمية يوسف حسن أبوفداية
في خضمّ المشهد السوداني المأزوم، حيث تتشابك خيوط السياسة والأمن، وتتعقّد دوائر العمل المدني، يبرز الفريق مهندس/ إبراهيم جابر كأحد الأسماء اللامعة واللافتة التي لا يمكن تجاهل حضورها. هو رجل لا يتحدّث كثيرًا، ولكن كلّما ذُكر اسمه في المجالس، تليه كلمة “الإنجاز” أو “الحسم”، لما يتمتّع به من تركيبةٍ فريدة تجمع بين الانضباط العسكري والعقلية الهندسية التحليلية.
وبينما يتقدّم المشهد الفريق أوّل ركن عبد الفتاح البرهان بصفته رئيس مجلس السيادة، فإنّ كثيرين في الأوساط السياسية والإدارية يؤكّدون أنّ يد البرهان التنفيذية في الملفات المدنية، هي الفريق إبراهيم جابر.
قبل أسابيع قليلة، وجدتُ نفسي في زيارةٍ إلى مدينة بورتسودان، الميناء الحيوي الذي يحتضن أنفاس البلاد التجارية. لم تكن المدينة كما عهدتُها؛ فقد اشتدّت السخونة على نحوٍ مزعج، وانقطعت الكهرباء في أغلب الأحياء. ولكن، المثير أنّ الزحام قلّ، وكأنّ المدينة قرّرت أن تأخذ استراحةً من فوضى النزوح والازدحام الذي خلّفته الحروب الأخيرة في العاصمة الخرطوم وولايات الوسط.
خلال زيارتي، لاحظتُ شيئًا مهمًّا: عاد بعض سكان الخرطوم، والجزيرة، وسنار إلى ولاياتهم الأصلية. ولكنّ المؤكّد أنّ بورتسودان لم تعد تحتمل مزيدًا من الإهمال.
رغم الظروف المناخية الصعبة، حرصتُ على زيارة عددٍ من المؤسسات المدنية، إلى جانب لقاءات اجتماعية مع أصدقاء قدامى. كل من قابلتهم يشكون من أمرين متلازمين: تراجع جودة الخدمات، وغياب واضح للإدارة الفاعلة.
بورتسودان ليست بحاجة إلى معجزة كي تنهض؛ ما تحتاجه فعليًّا هو بعض الجهد الإداري، ونفَسٌ تخطيطيٌّ يرى الإمكانات بدل العوائق. المدينة، بما لها من موقعٍ استراتيجي على البحر الأحمر، تُعدّ البوابة الطبيعية للسودان ولعددٍ من دول الجوار المنغلقة بحكم الجغرافيا، كجنوب السودان وتشاد وإثيوبيا. ومع ذلك، تبدو موانئها أقلّ نشاطًا من المتوقع، وأسواقها التجارية تعاني من ضعف الخدمات وتدهور البنية التحتية.
أحد أبرز التجّار قال لي بمرارة: “نحن لا نطلب المستحيل، فقط نريد طرقًا سالكة، كهرباء مستقرة، وتخليصًا جمركيًا لا يتطلب أن تمر عبر عشرين مكتبًا وأربعة وسطاء، وموظفًا لا ينجز لك معاملتك إلا إن دفعت.”
شكوى تكرّرت على ألسنة كثيرين، تشير إلى تفشّي البيروقراطية، والفساد، وتردّي الأداء المؤسسي.
لقاء مع خبير : “الخدمة المدنية تحتضر”
التقيتُ بصديقي الخبير المخضرم في شؤون الخدمة المدنية، وسألته عن حال البلاد، فأجابني بحزن: “الخدمة المدنية وصلت لمرحلة حرجة من التسيّب، والفساد، والمحسوبية، والابتزاز المباشر.”
لم تكن تلك مجرد شكوى عابرة، بل سرد لي تجارب ملموسة، منها تعيينات تتم على أساس الولاء السياسي أو القبلي، وتسيير مصالح عبر شبكات محسوبية محكمة.
قال لي صديقي : “لو عايز تعرف ليه فشلنا، انظر كيف تُدار المؤسسات المدنية اليوم. لا رؤية، لا شفافية، لا كفاءة. بعض الوزراء والمدراء لا يملكون أدنى فكرة عن المهام الموكلة إليهم، ويعتمدون على الولاءات بدل الكفاءات.”
حين انتقلتُ بالحديث إلى مَن يسير دفّة الأمور في غياب فاعلية المؤسسات المدنية، تنهد صديقي وقال: “لو البرهان داير يعمل حاجة عسكرية، بيرجع للفريق ياسر العطا. لكن لو داير ينجز في أي ملف مدني أو اقتصادي، لا بد من الفريق إبراهيم جابر.”
وقد كان هذا الحديث قبل تكليف الفريق جابر بملف تهيئة ولاية الخرطوم لتعود عاصمةً للبلاد، ويرجع إليها سكانها الأصليون، بعد إزالة التشوّهات والسكن العشوائي في أطراف ووسط العاصمة، وفي البيوت غير المكتملة، ممّا يشكّل تهديدًا أمنيًّا، وصحيًّا، واجتماعيًّا.
في الواقع، هذا الوصف ليس مبالغة. فالفريق إبراهيم جابر، بخلفيته الهندسية الطويلة، وتكوينه العسكري المنضبط، يتمتّع برؤية دقيقة للملفات، سواء في البنية التحتية، الصناعة، الموانئ، أو حتى الخدمات اللوجستية. وقد شهد له بذلك العديد من الضبّاط والمهندسين، وحتى بعض المدنيين الذين تعاملوا معه عن قرب.
يقول عنه أحد مساعديه:
“الفريق جابر لا يحبّ المظاهر، يفضّل العمل خلف الكواليس، لكن عندما يتولّى ملفًّا، فإنه لا يتركه حتى يُنجَز، أو على الأقل حتى تُزال العوائق الأساسية أمامه.”
ومن المعروف عنه كذلك أنّه لا يتسامح مع الفشل المتكرر، ولا يتردد في اتخاذ قرارات حاسمة قد تبدو للبعض قاسية، ولكنّها ضرورية للحفاظ على سير العمل .
لكنّ دور الفريق جابر لم يخلُ من التحدّيات. فبينما يرى فيه البعض “المنقذ الصامت”، يتهمه آخرون بأنه جزء من منظومة عسكرية تحاول السيطرة على مفاصل الدولة، بما فيها الجوانب المدنية. هذا الاتهام ليس جديدًا في الحالة السودانية، التي تعاني من صراع مزمن بين المدنيين والعسكريين حول السلطة والصلاحيات.
غير أنّ الواقع يفرض شيئًا آخر:
“في ظل غياب حكومة مدنية فعّالة، ومؤسسات قادرة على النهوض، تصبح الشخصيات ذات الكفاءة والقدرة، حتى وإن كانت عسكرية، ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. وفي هذا السياق، يظهر الفريق جابر لا كمنافس للمدنيين، بل كحلٍّ مؤقت، أو (مُسعف) لملفاتٍ متعثرة، أو كمساعد لنجاح الحكومة المدنية.”
إذا كانت بورتسودان مثالاً مصغّرًا لما تمرّ به البلاد، فإنّ إصلاحها قد يكون مفتاحًا لإصلاحات أوسع. كل ما تحتاجه هو إرادة سياسية صادقة، وقيادة تنفيذية قادرة، ومتابعة دقيقة.
ولعلّ وجود شخصية مثل الفريق جابر في مواقع القرار يمكن أن يحقّق فارقًا، لا سيّما في ظلّ الضبابية التي تلفّ المشهد المدني والسياسي. فمن الوفاء لبورتسودان وأهلها – قبل أهل السودان جميعًا – إعادة إعمارها ماديًّا وإداريًّا، بالتوازي مع إعمار العاصمة الخرطوم.
لقد آن الأوان أن تُمنح الكفاءات الحقيقية – مدنية كانت أو عسكرية – فرصةً لقيادة التحوّل، شريطة أن تكون هناك محاسبة وشفافية، وألّا يكون الهدف مجرد إنجازٍ مرحلي، بل تأسيس نهجٍ جديد في الإدارة والتنمية.
الفريق مهندس/ إبراهيم جابر، في نظر كثيرين، هو واحد من تلك التجارب. قد لا يحظى بأضواء الإعلام، ولا يهوى الميكروفونات، لكنه يترك بصماته حيثما وُضع. وإذا أُعطي مساحةً أوسع من الدعم والإشراف المدني، فقد يكون جزءًا من مرحلةٍ انتقاليةٍ حقيقية، لا مجرد امتدادٍ لأزماتٍ سابقة.
فهل نمتلك الشجاعة للاستفادة من الكفاءات،بصرف النظر عن خلفياتها؟
وهل يمكن أن تعود الخرطوم وبورتسودان، والسودان كلّه، إلى أفضل من سابق عهده؟
