صباح المكّي
لم يكن الإسقاط الجوي فوق الفاشر حدثًا عابرًا ولا مجرد إغاثة إنسانية لمدينة محاصرة، بل كان رسالة مدوّية بأن السودان لا يُكسر، وأن جيشه لا يعرف الهزيمة. في التاسع والعشرين من سبتمبر ٢٠٢٥ دوّى صوت الانتصار في الفاشر، حين دمّرت القوات المسلحة السودانية منظومات الدفاع الجوي التي طوقت المدينة، وحيّدت الرادارات والبطاريات المضادة للطائرات، فانفتحت السماء مجددًا أمام إسقاطات الغذاء والدواء والإمدادات الحيوية لمدينة أنهكها الحصار والتجويع.
للمرة الأولى منذ خمسة أشهر، تمكن الجيش من إيصال هذه الإمدادات إلى قاعدته المحاصرة، بعد أن صدّ الهجوم رقم ٢٤٧ ودمّر منظومتين متقدمتين من الدفاع الجوي، ليرتفع مجموع المنظومات المحيّدة إلى ثلاث. لم يكن ذلك مجرد وصول للطعام والدواء، بل كان انتصارًا للروح وبعثًا للحياة في شعبٍ صمد أكثر من ٥٠٠ يوم تحت حصار خانق وهجمات متواصلة من ميليشيا الجنجويد المدعومة من نظام أبوظبي.
هذا النصر حلقة ضمن سلسلة انتصارات متصاعدة. في كردفان استعاد الجيش أراضي وفكك معاقل راسخة، وعلى جبهات أخرى تراجعت الميليشيا خطوة بعد خطوة. غير أنّ رمزية الفاشر تتجاوز الخرائط العسكرية. هي كسر للقيد وانهيار لرواية رُوّج لها طويلًا بأن الجيش عاجز عن بلوغ المستحيل. جاء الميدان ليبرهن أن المستحيل يُهزم أمام إرادة الجنود والشعب.
حرب السرديات… الدعاية تنهار أمام الميدان
خاض الجيش السوداني حربين متوازيتين: حرب السلاح وحرب السرديات. فقد روّج نظام أبوظبي وشركاؤه لأشهر طويلة دعاية مسمومة صوّرت القوات المسلحة مؤسسة واهنة محكومة بالهزيمة، وزادوا في الكذب حتى ادعوا أنها مجرد ميليشيا إسلامية. انساق بعض المسؤولين الغربيين خلف هذا الخطاب، فسعوا إلى فرض تسويات قائمة على مساواة الجيش الوطني بمليشيا مرتزقة تدعمها أبوظبي، متجاهلين الفارق الجوهري بين مؤسسة دستورية تاريخية وعصابة مسلحة صُنعت بأموال الخارج.
لكن الميدان قال كلمته. الجيش الذي صُوِّر على أنه مهزوم نجح في إسكات أقوى تحصينات الميليشيا في الفاشر، فحطّم راداراتها وسحق بطارياتها المضادة للطائرات، وفتح السماء لتحلق فيها أجنحة الخلاص. هكذا انكشفت الدعاية، فلم تكن خطأ في التقدير بل مؤامرة مدروسة لإضعاف إرادة الشعب السوداني. وجاء إسقاط الفاشر ليهدمها فوق أصحابها.
وفي موازاة ذلك، خِيضَت معركة الإعلام الغربي التي كررت الصورة نفسها: جيش وُصف بالإسلامية، متطوعون وُسموا بالإرهاب، ومواطنون شُيطِنوا لأنهم آزروه. جرى تسخير الإسلاموفوبيا سلاحًا سياسيًا لتجريم جذور الكفاح الروحية ونزع الشرعية عن المقاومة. وكان الشعار المكرر: لا حل عسكريًا في السودان.
لكن أي حياد هذا؟ التاريخ القريب يثبت العكس. مصر خاضت حملة عسكرية ضارية في سيناء لسنوات طويلة بعد ٢٠١٣ ضد من وصفتهم بالإسلاميين باعتبارهم تهديدًا للأمن القومي. السعودية ومعها نظام أبوظبي، لو كانتا لا تؤمنان بالحسم العسكري، فلماذا أشعلتا حرب اليمن واستمرتا في قصفها خمسة عشر عامًا؟
ومن مفارقات القدر أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الثلاثاء ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٥، جمع كبار الجنرالات والأدميرالات من مختلف المواقع العسكرية حول العالم في اجتماع بقاعدة كوانتيكو بولاية فيرجينيا. وهناك خاطبهم معلنًا أن الولايات المتحدة نفسها تواجه ما سماه “حربًا من الداخل”، مشيرًا إلى مدن مثل سان فرانسيسكو وشيكاغو ونيويورك ولوس أنجلوس بوصفها ساحات صراع داخلي، ولوّح باستخدام الجيش في هذه المدن لقمع المعارضة وحماية “الأمن القومي الأمريكي”. فأي مفارقة أبلغ من هذا؟ رئيس يهدد مواطنيه بالحل العسكري ثم يقف ليعظ السودان.
لم يكن شعار «لا حل عسكريًا في السودان» حيادًا، بل استراتيجية محسوبة لإضعاف الجيش السوداني وتفكيكه، وهو آخر مؤسسة وطنية صامدة، تمهيدًا لإعداد سلطة وكيلة تكون مقبولة لدى العواصم الأجنبية. ولا دولة ذات سيادة تقبل أن يُختزل جيشها في مستوى عصابة. وجاءت معركة الفاشر لتسقط هذا العبث: جيش قيل إنه عاجز فكك أكثر دفاعات العدو تقدمًا ورفع الحصار عن مدينة جائعة، فأثبت أن الحقائق تُكتب في الميدان لا في بيانات الخارج.
الخيانة الداخلية والمخططات الخارجية
المؤامرة لم تأت من الخارج وحده، بل خرجت من الداخل عبر ميليشيا الدعم السريع التي كان يُفترض أن تُنزع أسلحتها وتدمج في الجيش. لكن قائدها كشف مبكرًا عن نواياه، فرفض الاندماج وقاد انقلابًا على المؤسسة التي شرعت وجوده. في اليوم الأول للحرب وجّه سلاحه إلى صدور رفاقه، وحاصر القائد العام الفريق أول عبد الفتاح البرهان في مقره. ثم توالى سقوط الولايات تباعًا، من الجزيرة إلى سنار وصولًا إلى جبل موية، ليُخيَّل أن الميليشيا عصية على الهزيمة. ومع ذلك ظل الجيش واقفًا، ثابتًا في الميدان، رغم عزله وتشويهه إعلاميًا.
أما على المسرح الدولي فقد رُسمت خرائط انتقال مدني تجاهلت تاريخ السودان وتجربته. المقصد لم يكن الديمقراطية بل إضعاف الجيش وتمكين وكلاء الخارج. والمفارقة أن أنظمة ملكية لم تعرف الانتخابات وسلطات استبدادية بلا تفويض هي من تصدرت مشهد إلقاء الدروس في الديمقراطية على السودان، بلد الثورات والدساتير والبرلمانات.
وتجلت هذه المخططات في صورة حرب وكالة مكتملة الأركان. السلاح تدفق من خزائن نظام أبوظبي وعبر مسارات تشاد وليبيا وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وحتى بوصاصو في بونتلاند وأرض الصومال. بالتوازي صُنعت واجهات سياسية قُدِّمت على أنها مدنية، يتقدمها عبد الله حمدوك، لتوفر غطاءً شرعيًا للانقلاب. هكذا التقت بنادق الخارج بلغة السياسة لتطويق السيادة في الميدان وفي أروقة المؤتمرات. وعلى المسار الدبلوماسي أمّنت بعض العواصم الغربية غطاءً سياسيًا يردد الشعار نفسه: لا حل عسكريًا. وفي الواقع كان التعامل مع الجيش وميليشيا الدعم السريع كأنهما كيانان متكافئان. لكن الفاشر أثبتت هشاشة الخطة: المدافع المستوردة قابلة للتدمير، والوجوه المصطنعة قابلة للفضح، أما القناعة والسيادة فلا تُكسر.
الصمود الأسطوري وقوة العقيدة
منذ البدايات المظلمة، واجه الجيش السوداني الحرب وهو شبه أعزل في مواجهة ميليشيا مُثقلة بأموال وسلاح ودعم طائرات مسيرة. أعاد الجيش بناء نفسه وحدة بعد أخرى، وتقدم جنوده في شوارع الخرطوم بيتًا بيتًا، وأحيانًا لم يحملوا سوى السلاح الأبيض. في مدينة يسكنها ١٢ مليونًا تكيف مع قسوة حرب المدن وحوّل حرب الاستنزاف إلى عملية استعادة متدرجة للأرض والكرامة.
لكن الضغوط الدولية لم تتوقف. كلما تقدم الجيش فُرضت هدنة تحت شعار السلام، لكنها لم تكن سوى غطاء للميليشيا كي تعيد تسليح نفسها عبر خطوط إمداد خارجية. كانت الهدن تُخرق دائمًا، بينما تصدر البيانات الدولية لإدانة الطرفين معًا. هكذا حوصِر المدافعون بالعقوبات، وحُمي المعتدون بغطاء الشرعية الزائفة.
ومع ذلك، فإن الصمود الذي أبداه الجيش ارتقى إلى مستوى الأسطورة. لم تُقَس قوته بالأرقام أو العتاد، بل بإرادة لم تخضع. يصنف موقع Global Firepower السودان في المرتبة التاسعة بين جيوش أفريقيا وفقًا للعتاد البشري والتسليحي. لكن هذه المؤشرات تعجز عن قياس العنصر الحاسم وهو المقاتل السوداني. لو كان معيار الحرب يُقاس بالمدفعية وحدها لانتهى الجيش في ثلاثة أيام. وقد كشف اللواء الركن عثمان محمد عباس عثمان، الرئيس الأسبق لهيئة أركان قوة شرق أفريقيا الاحتياطية (الإيساف)، أن الخطة الأصلية كانت تدمير الجيش خلال ٧٢ ساعة. لكن الخرائط اصطدمت بواقع آخر: امتص الجيش الضربة الأولى، استنزف مهاجميه، وأتقن قسوة حرب المدن حتى تحولت الساحة إلى مقبرة للمشروع الانقلابي.
هذه القدرة على الصمود لا تُقاس بالمدفعية، بل بالقناعة. الجندي السوداني لا يقاتل من أجل راتب، بل من أجل عقيدة ووطن وواجب تاريخي. في العواصم الأجنبية يُنظر إلى هذا الالتزام كتهديد، لأن جيشًا متجذرًا في إيمانه لا يُشترى ولا يُفكك بصفقات. يخضع فقط لواجب أسمى من أي ضغط خارجي، وهذا ما يجعله عصيًا على الترويض.
ولهذا تستهدفه مخططات التقزيم الغربية: ليس لأنه يملك المدفعية، بل لأنه يملك القناعة. القناعة بأن السودان سيبقى سيد قراره، القناعة بأن الجيش سيدافع عن أرضه مهما كان الثمن، القناعة بأن الدين ليس عائقًا، بل مصدر قوة أخلاقية. إنه يجسد نموذج مقاومة يقوم على الإيمان والانضباط والكبرياء الوطني. ليس ميليشيا مرتزقة أو تختبئ خلف أيديولوجيا، بل جيش مهني قومي مستعد للتضحية بما لا يقدمه مرتزقة أو وكلاء. هذه الروح لا تُصنع في مراكز التفكير ولا تُشترى بأموال النفط ولا تُفرض بالقوة. إنها أساس صمود السودان، ولذا لم يبقَ أمام خصومه سوى محاولات التركيع والتشويه.
السودان بين دمى الخارج وإرادة الداخل
هذه الحرب لم تكن ضد الجيش فحسب، بل ضد سيادة السودان وإيمانه وحقه في الحرية. كسر الحصار عن الفاشر بتحييد الرادارات والبطاريات المضادة للطائرات لم يكن إنجازًا عسكريًا عابرًا، بل إعلانًا قاطعًا أن الجيش ماضٍ قدمًا ولن يركع. ومع تقدمه في كردفان وما بعدها، لم يكن ذلك مجرد بقاء، بل انبعاثًا جديدًا لروح الدولة.
انهار المشروع الذي أراد إخضاع السودان، فتفككت جبهته العسكرية وتآكلت واجهته السياسية تحت ثقل خيانتها. أما وجوه الدمى التي اصطفّت على شاشات الإعلام الأجنبي فلم تحصد سوى السقوط وفقدان المصداقية، ووقعت على شهادة وفاتها السياسية والأخلاقية.
فالشرعية لا تُمنح في استوديوهات التلفزة ولا تُصاغ في مؤتمرات الخارج، بل تولد على أرض السودان، بين أبنائه، وبموافقتهم. تصريحات العملاء لم تكن سوى صدى لمخططات خاوية بلا جوهر.
وسيظل التاريخ شاهدًا لا يرحم. قد تُنفق الدعاية ما تشاء لتشويه صورة الجيش، لكن ما يُسطر في سجل السودان هو الصمود والتضحية والتحدي. هذه الحرب ليست معركة سلاح فحسب، بل امتحان سيادة وكرامة. وقد أثبت شعب السودان وجيشه أن الكرامة لا تُشترى ولا تُباع، وأن السيادة تُصان بالدم والإيمان وبإرادة الداخل، لا بصفقات الخارج ولا بدمى السياسة.
نقلا عن بروان لاند-عربى
