الفاشر التي لم تسأل

عوض الله نواي
يقول المثل السوداني: “الجعلي يقضي ليله خنق”؛ إذا جاع لا يترك بطنه لتتلوى، بل يخنق عنقه حتى ينسى قصة الأكل.
اليوم تذكرت هذا المثل وأنا أرى الفاشر. مدينة محاصرة، جائعة، عطشى، لكنّها واقفة. لم تسأل أحدًا أن يشفق عليها، ولم تمد يدها لتستجدي من يتظاهر بالإنسانية. كأنها تقول: “إن متنا فنحن واقفون، وإن جُعنا فلن نُريكم بطوننا الخاوية.”
الفاشر اليوم تُعيد كتابة الأمثال السودانية. لم تكتفِ بخنق الجوع، بل خنقت الخوف نفسه، فصار الميدان مدرسة في الصمود.
الغريب أن الخرطوم التي تحررت صارت تتثاءب، وبورتسودان التي تنعم بالأمان تراقب من بعيد. بينما نصف مليون نفسٍ في الفاشر يقضون ليلهم خنقًا، والناس في المدن الاخري مشغولين بالجلوس على المقاهي وفي تجمعات اخري كما ينشغل الأطفال بعدّ حبّات الزرع في المخزن.
وعلى مدى عامين كاملين، تعرّضت الفاشر لأكثر من مئتين وثمانٍ وثلاثين هجمة، راح ضحيتها الآلاف من الرجال والنساء والأطفال. كل بيت فيها نُكِب، وكل شارع سُفِح، حتى غدت المدينة كلها مقبرة مفتوحة على السماء.
واليوم تشبه الفاشر بيوت الأشباح حتي غادرتها أشباحها ، حتى الذين كانوا يسكنون الخوف ويُلقون الرعب في النفوس من الاشباح غادروها، كأنهم أدركوا أن الأشباح لا مكان لها بين الأحياء الصامدين. مدينة تتنفس الحصار، لكنها لم تفقد روحها.
للفاشر فضل لا يُنكر. هي التي مدت يدها يومًا حتى وصلت إلى كسوة الكعبة، تحملها قافلة من السودان لتغطي بيت الله في مكة. فمن يكسوها اليوم بالطمأنينة؟ من يفك عنها ثوب الحصار ويغسل عنها غبار الجوع والخذلان؟
لماذا لا تقوم ولايات السودان جميعًا في نفرة واحدة؟ ولاية بمتحرك، وولاية بزاد جهاد، يتجمع القمح من الجزيرة، والذرة من القضارف، والإبل من كردفان، والرجال من الشمال والشرق. قوافل تدخل الفاشر كما دخلتها كسوة الكعبة من قبل، فينقلب الحصار إلى عيد.
على تراب الفاشر اليوم تُكتب قصص الرجولة والشهامة. هناك شاب حمل جريحًا على كتفه وقطع به مسافة كيلومترات تحت وابل الرصاص. وهناك امرأة خبزت لأربعين جنديًا من كيس دقيقها الأخير. وهناك طفلٌ يتيم يقف في الصف الأول، يوزع الماء على المقاتلين كأنه شيخ قبيلة.
وهذه القصص ليست غريبة على تاريخ السودان. فمن أرض شيكان خرجت الملحمة التي كسرت جيشًا مستعمِرًا، ومن كرري دوّى الصوت بأن الدم لا يُقهر بالمدفع. واليوم، تقف الفاشر على ذات السطر، تكتب بدمائها ملحمة جديدة.
المليشيا التي عجزت عن اقتحام المدينة – وكانت تنتظر سقوطها لتعلن حكومتها الوهمية – لم تجد إلا الأكاذيب. فأشاعت أن حكومتها أدت القسم! لكن أين هو المقطع الذي يوثّق ذلك القسم؟ وأمام من أقسموا؟ وعلى أي عهد أقسموا؟
هل أقسموا على قتل الناس؟ على السلب والنهب و”الهمبتة”؟ أم أقسموا أن يكونوا ظلًا للشياطين فوق أرض السودان؟
الفاشر اليوم تسألنا – كما سألت شيكان وكرري من قبل –: متى نجيب بالفعل لا بالقول؟



