رأي

الفاشر، لينينغراد السودان: مدينة تُجَوَّع وتُقصف وسط صمت العالم

 

د. عبدالناصر سلم حامد

منذ مايو 2024، تعيش مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، تحت حصار شامل تفرضه قوات الدعم السريع. المدينة، التي كانت يومًا ما مركزًا إداريًا نابضًا بالحياة، تحولت إلى مساحة مغلقة تموت ببطء. أكثر من 800 ألف مدني محتجزون داخلها بلا غذاء أو دواء أو مخرج. تتوالى التقارير عن قصف مراكز صحية، أسواق، مساكن، ومخيمات نازحين، بينما تُمنع المساعدات بشكل صارم من الوصول. لا كهرباء، لا ماء نظيف، لا أدوية، ولا حتى مستشفى واحد عامل. ومع كل ذلك، تظل الفاشر وحيدة في مواجهة آلة التجويع، وتحت صمت العالم.

الأرقام التي تصدر من الجهات الدولية تروي صورة مروّعة: 782 قتيلًا و1,143 جريحًا منذ بدء الحصار، بحسب مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. في يناير 2025، أدى قصف بطائرة مسيرة إلى مقتل 70 شخصًا في مستشفى الفاشر السعودي، أكبر منشأة طبية في المدينة. تم تدميره بالكامل. في مخيم زمزم، الذي يأوي 450 ألف نازح، يعيش السكان في ظروف غير صالحة للبقاء الآدمي. اليونيسف حذرت من أن 825,000 طفل معرضون لخطر الموت جوعًا، بمعدل وفاة طفل كل ساعتين. أكثر من 25 مليون شخص على مستوى السودان يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بينهم أكثر من 770,000 طفل في حالات سوء تغذية حاد ووخيم.

 

من الجانب الإنساني، لا توجد أي مبررات لهذه الكارثة. الأطفال يموتون في أحضان أمهاتهم، النساء يلدن في العراء، والجرحى ينزفون دون أي فرصة للعلاج. الفرق الطبية، إن وجدت، تعمل في سرية وتحت تهديد القصف. تُدفن الجثث في ساحات المدارس ومداخل الأسواق. “ما نراه في الفاشر ليس فقط مأساة، بل جريمة ضد الإنسانية تُرتكب على الهواء مباشرة”، كما قال مسؤول في أطباء بلا حدود. أسوأ ما في الصورة أن الكارثة لم تعد مفاجِئة، بل متوقعة، ولا أحد يتحرك.

لكن المأساة لا تقف عند البُعد الإنساني. عسكريًا، تُعد الفاشر عقدة استراتيجية بالغة الأهمية. فهي آخر معقل رئيسي للجيش السوداني في دارفور، وهي نقطة وصل بين مناطق غرب السودان والحدود الليبية والتشادية. سقوطها يعني بسط سيطرة كاملة لقوات الدعم السريع على الإقليم. ولهذا، تعتمد القوات على سياسة “الاستنزاف غير المباشر”؛ حصار، تجويع، وعزل بدل المواجهة المباشرة. هذه الاستراتيجية، رغم كلفتها البشرية الفادحة، تحقق مكاسب ميدانية هائلة، وتقلل من خسائر الطرف المهاجم. إنها حرب تُخاض على بطون الجياع وليس على خطوط الجبهات.

ما يفعله الدعم السريع في الفاشر ليس مجرد محاولة لحسم معركة محلية، بل هو استعراض لقوة ميليشياوية تسعى إلى ترسيخ موقعها كقوة موازية أو بديلة للدولة المركزية. بتحقيق السيطرة الكاملة على الفاشر، تضمن قوات الدعم السريع قطع الشريان الأخير بين الجيش السوداني ودارفور، وتفرض وقائع جديدة على الأرض تصعّب أي تفاوض لاحق بشأن السلطة أو حدود النفوذ. إنها معركة رمزية بنفس قدر ما هي عسكرية: من يملك الفاشر، يملك اليد العليا في دارفور، وربما ورقة تفاوض سيادية في السودان كله.

وإذا استمر الحصار الحالي دون تدخل، فإن انعكاساته لن تتوقف عند حدود الفاشر. النزوح الجماعي نحو دول الجوار قد يُشعل توترات حدودية جديدة، ويضعف استقرار تشاد التي تعاني أصلًا من هشاشة سياسية وأمنية. كما أن غياب المساءلة يعزز بيئة الإفلات من العقاب، ويعطي إشارات خطيرة لبقية الأطراف المسلحة – في السودان أو غيره – بأن استخدام الجوع كسلاح يمكن أن يُمرر دون عقوبة.

 

تاريخيًا، تُذكّرنا الفاشر بما حدث في مضايا في سوريا، ولينينغراد خلال الحرب العالمية الثانية، حين استخدم الحصار كأداة خنق جماعي. لكن في حالة الفاشر، الكارثة تقع في زمن النظام القانوني الدولي، تحت كاميرات المنظمات، وفي ظل سوابق قانونية واضحة مثل ملف دارفور 2005 نفسه. هذا ما يجعل ما يجري في الفاشر ليس فقط جريمة حرب، بل علامة سوداء على فشل المجتمع الدولي في تطبيق الدروس التي ادّعى تعلّمها.

 

أما قانونيًا، فإن الانتهاكات المرتكبة من قبل قوات الدعم السريع في الفاشر لا تندرج تحت توصيف “جرائم محتملة”، بل تنطبق عليها تعريفات دقيقة في القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي. أولًا، الحصار الكامل ومنع دخول المساعدات الإنسانية يُعد خرقًا لاتفاقية جنيف الرابعة، وخاصة المواد 23 و59، التي تلزم أطراف النزاع بالسماح بحرية مرور الإغاثة للسكان المدنيين. واستخدام الحصار لتجويع المدنيين عمداً يرقى إلى جريمة حرب حسب المادة 8(2)(ب)(xxv) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ثانيًا، قصف المنشآت الطبية كما حدث في مستشفى الفاشر يُعد انتهاكًا صارخًا للمادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة، ويُصنف كجريمة حرب وفق المادة 8(2)(ب)(ix). ثالثًا، الاستهداف العشوائي أو المتكرر للمدنيين يدخل ضمن الجرائم المحظورة في المادة 8(2)(ب)(iv). وإذا ثبت أن هذه الأفعال جزء من سياسة ممنهجة وعلى نطاق واسع، فهي جريمة ضد الإنسانية بحسب المادة 7.

 

“الوضع القانوني واضح: هناك سلوك ممنهج يشير إلى نية استخدام الحصار والتجويع والإرهاب ضد المدنيين كوسيلة ضغط عسكرية وسياسية. هذا ليس مجرد فشل إنساني، بل خرق فاضح للقانون الدولي يستوجب التحقيق والمساءلة”، بحسب د. فادي قرقماز، أستاذ القانون الدولي – جامعة جنيف. ورغم أن السودان لم يصادق على نظام روما، فإن مجلس الأمن يمتلك صلاحية إحالة الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية، كما فعل سابقًا في ملف دارفور عام 2005، وهو ما يشكّل سابقة قائمة.

 

حتى الآن، لا تحقيق دوليًا فُتح، رغم المطالبات. قرار مجلس الأمن رقم 2736، الصادر في يونيو 2024، دعا إلى وقف الأعمال العدائية وفتح ممرات إنسانية. لكنه بقي قرارًا بلا تنفيذ. لا لجان، لا مراقبين، لا عقوبات. الاستجابة الدولية تقتصر على بيانات “قلق”، ونداءات “مساعدة”، دون أي ضغط حقيقي أو تحرك فاعل.

في غياب المحاسبة، تستمر الجرائم. وفي ظل الصمت، تتكرر. الفاشر باتت رمزًا لعجز العالم، وتواطئه بالصمت، أو على الأقل عجزه الكامل عن حماية أبسط الحقوق: الحياة.

النتائج لا تقف عند حدود دارفور. بدأ آلاف من سكان الفاشر في النزوح نحو الحدود مع تشاد. المخيمات الممتدة على الجانب الآخر من الحدود لا تملك أي قدرة على الاستيعاب. إذا لم تُفتح ممرات إنسانية، وإذا لم تُرفع الحماية الدولية للمدنيين، فإن الكارثة ستتوسع لتشمل الإقليم بأكمله. المجاعة لا تتوقف عند حدود، والفوضى لا تبقى داخل مدينة.

ما المطلوب؟ تحقيق مستقل من مجلس حقوق الإنسان. إحالة فورية إلى المحكمة الجنائية الدولية. فرض عقوبات شخصية على قيادات قوات الدعم السريع. فتح ممرات إنسانية آمنة ومحايدة. تصعيد الضغط الإعلامي والسياسي لإنقاذ من تبقى.

في الفاشر، لا يموت الناس فقط من الجوع أو القصف، بل من التجاهل الدولي. الكارثة تُوثق وتُبث وتُحكى، لكن لا تُوقف. وإذا لم تكن هذه جريمة حرب، فماذا تُسمى؟ وإذا لم تُحمَ الفاشر، فمن؟ وإذا لم يُحاسب الجناة، فمتى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى