رأي

العودة إلى الصواب: بنك السودان المركزي يستعيد وعيه الاقتصادي

مهند عوض محمود

منذ تعيين الدكتورة آمنة ميرغني حسن التوم محافظاً لبنك السودان المركزي في الثالث عشر من أكتوبر الماضي، يمكن القول دون مبالغة إن المؤسسة النقدية الأهم في البلاد قد عادت إلى صوابها بعد سنوات من الاضطراب والتخبط؛ الحمد لله الذي أذهب عنا الأذى وأعاد للعقل الاقتصادي السوداني اتزانه. لم يكن التغيير في شخص المحافظ مجرد خطوة إدارية روتينية؛ بل كان حدثاً ذا رمزية عميقة، إذ تُعد آمنة أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ السودان، لتفتح بذلك باباً واسعاً لإثبات كفاءة المرأة السودانية وقدرتها على القيادة في أدقّ وأعقد الظروف. فهذه المرحلة لا تحتاج إلى مصرفي تقليدي فحسب، بل إلى خبيرٍ في إدارة الأزمات واقتصاد الحرب؛ شخصٍ يفهم التوازن الدقيق بين السياسة النقدية ومتطلبات البقاء الاقتصادي وسط عواصف الصراع.
منذ تسلمها مهامها، بدأت المحافظ الجديدة عملها بخطوات مدروسة تعكس وعياً مؤسسياً وإدراكاً لطبيعة الأزمة؛ فكانت أولى تحركاتها اللقاء بالبنوك التجارية والإشادة بها على صمودها في حفظ النظام المصرفي رغم الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد؛ مؤكدة التزام البنك المركزي بدعم هذه المؤسسات التي تمثل عصب الاقتصاد الوطني. هذا اللقاء أعاد جسور الثقة بين المركزي والقطاع المصرفي بعد سنوات من الجمود، وأطلق رسالة طمأنينة للمودعين والمستثمرين بأن النظام المصرفي ما زال قائماً على أسس مهنية صلبة.
وفي الخامس من نوفمبر الجاري، اتخذ البنك المركزي تحت قيادتها واحداً من أهم قراراته في خضمّ الأزمة التي تعصف بالبلاد، وهو إلغاء المنشور الذي كان قد صدر قبل نحو شهرين ، والذي حصر تصدير الذهب في يد البنك المركزي، والسماح مجدداً للقطاع الخاص بالدخول المباشر في عمليات التصدير ؛ بهذا القرار أُزيلت واحدة من أبرز القيود التي عطّلت حركة السوق وأرهقت المنتجين والمصدّرين، ليخرج الذهب السوداني من أسر الاحتكار المؤقت إلى فضاء المنافسة الحرة؛ فبينما كان ذلك المنشور قد أعاد إنتاج البيروقراطية الحكومية في أبشع صورها، جاءت خطوة الإلغاء لتعيد التوازن بين دور الدولة كمنظم، ودور القطاع الخاص كمحرك رئيسي للاقتصاد الوطني.
إشراك القطاع الخاص في تصدير الذهب يمنح العملية مرونة وسرعة وقدرة على فتح أسواق جديدة وخلق شبكة من العملاء في الخارج؛ فضلاً عن أن القطاع الخاص يتمتع بقدرة أكبر على إدارة التحويلات المالية بطرق نظامية وآمنة. كما أن قرار البنك المركزي السماح بالدفع عبر الاعتمادات المستندية على أن تُورَّد الحصائل خلال شهر واحد يُعدّ خطوة ذكية نحو تحفيز السوق و توسيع مظلة الصادر وتنويع الأسواق وتعزيز الشفافية وضمان دخول العائدات إلى القنوات المصرفية الرسمية؛ وهو ما سيقوّي احتياطات النقد الأجنبي ويحدّ من نشاط السوق الموازي.
إن إلغاء احتكار تصدير الذهب خطوة إصلاحية بامتياز؛ إذ تُحوّل البنك المركزي من جهة تشغيلية إلى جهة تنظيمية ورقابية، وتُتيح له التركيز على سياساته النقدية بدلاً من التورط في العمليات التجارية. فالقطاع الخاص بطبيعته أسرع في الاستجابة للأسواق الخارجية وأكثر قدرة على التنافس، في حين أن البيروقراطية الحكومية بطئها وتعقيدها تسببت طويلاً في تعطيل موارد البلاد وتراجع صادراتها.
وفي إطار الإصلاح النقدي، أعلن البنك المركزي قرارات تتعلق بإبدال العملة وإصدار فئات جديدة من فئتي الألفي جنيه والخمسمائة جنيه؛ وهي خطوة جريئة وضرورية للحد من تداول الفئات المزورة المنتشرة في الأسواق، وتقليص الكتلة النقدية المتداولة خارج الجهاز المصرفي، وتعزيز الثقة في العملة الوطنية. هذه العملية، من منظور اقتصادي، تساعد على ضبط السيولة ومحاصرة التضخم النقدي، كما تدفع المواطنين إلى التعامل عبر المصارف، الأمر الذي يُعمّق الشمول المالي ويعيد الانضباط إلى الدورة النقدية.
وفي خضم هذه الإصلاحات، يمكن ملاحظة أن البنك المركزي بدأ يستعيد دوره الطبيعي كصانع للسياسات النقدية لا كمنفذٍ لقرارات ظرفية؛ فالمسار الحالي يشير إلى عقلنة القرار الاقتصادي وربطه بالمعايير العالمية، وليس بالمزاج السياسي. هذه النقلة النوعية تضع السودان على طريق جديد في إدارة موارده، خاصة إذا ما استُكملت بخطوات مدروسة في التعامل مع القطاع المصرفي والقطاع الخاص.
وعلى المدى القريب، من المتوقع أن يؤدي السماح للقطاع الخاص بتصدير الذهب إلى زيادة تدفق النقد الأجنبي وتضييق الفجوة بين السعر الرسمي والموازي؛ كما ستسهم الحصائل النظامية في رفع السيولة داخل البنوك وتعزيز قدرتها على الإقراض، بينما سيعيد استبدال العملة ضبط السوق الداخلية ويحد من المضاربات. أما على المدى البعيد، فإن هذه الإجراءات تضع الأساس لتحويل صادرات الذهب من مصدرٍ للتهريب والفوضى إلى رافدٍ حقيقي للتنمية، وتفتح الباب أمام تنويع الاقتصاد الوطني وبناء قاعدة تصديرية قادرة على المنافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية.
مع ذلك، فإن الإصلاح لا يكتمل ما لم يباشر البنك المركزي حواراً عاجلاً مع البنوك التجارية بشأن الحصائل المتعثرة؛ إذ إن السعر المحدد في آخر منشور للبنك يُعدّ مجحفاً في حق المصدرين، ومن البديهي أن القطاع الخاص لن يلتزم بتحويل العائدات ما دام السعر غير مجزٍ. لذلك يجب أن يُعاد النظر في آلية تسعير الحصيلة بما يضمن العدالة بين الأطراف، ويُحفّز المصدرين على التحويل عبر القنوات النظامية.
إن ما تقوم به الدكتورة آمنة ميرغني ليس مجرد إدارة للبنك المركزي في زمن الحرب؛ بل هو إعادة بناء لثقة مفقودة بين الدولة والقطاع الاقتصادي؛ ومحاولة جريئة لتحويل النظام المصرفي من عبءٍ إداري إلى محرّكٍ للإنتاج والتنمية. لقد أثبتت الأيام القليلة الماضية أن المرأة السودانية تملك من الجرأة والحكمة ما يؤهلها لإدارة أصعب الملفات، وأن الإصلاح الحقيقي يبدأ من العقل النقدي للدولة؛ من بنكٍ مركزيٍّ يعرف متى يتدخل ومتى يترك السوق تعمل بذكائها الطبيعي.
هكذا، يمكن القول إن بنك السودان المركزي بدأ فعلاً يعود إلى صوابه؛ وأن ما يجري اليوم ليس مجرد حزمة قرارات متفرقة، بل بداية مسار إصلاحي حقيقي، يستحق أن يُدعم ويُتابع، لأن استقرار الجنيه واستعادة الثقة في النظام المصرفي هما حجر الأساس لأي نهوض اقتصادي قادم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى