العلاقات السودانية-المصرية: مرحلة ما بعد الحرب حكايات من الماضي… وتساؤلات عن المستقبل
التيجاني عبد القادر حامد
كنت في مدينة لندن أواسط الثمانينات من القرن الماضي أعد رسالتي للدكتوراة. كان الدكتور الترابي-عليه الرحمة- حينما يزور المدينة من حين لآخر يلتقي بنا افراداً وجماعات؛ يطلعنا على أخبار السودان والحركة الإسلامية، ونطلعه على أحوال من حولنا من المسلمين في بلاد الغرب. وقد كانت له بالطبع صداقات وعلاقات كثيرة، وكان أحياناً يحرص-أريحية منه وشفافية- على اصطحابنا الى لقاءاته الخاصة مع جهات وأشخاص لم تكن لدينا بهم معرفة.
ذهبنا معه ذات مساء شتوي بالغ البرودة الى مدينة صغيرة من ضواحي لندن (نسيت أسمها بكل أسف). كان ذاهباً تلبية لدعوة للعشاء تقدمت بها شخصية بريطانية مخضرمة-شهدت أواخر حكم البريطانيين للسودان، كما شهدت الحقب التي توالت فيها الحكومات الوطنية بعد الاستقلال. يضاف إلى ذلك أنه كانت له صلة استشارية وثيقة بالسيد عبد الرحمن المهدى امتدت من بعده إلى حفيده الشاب-آنذاك- السيد الصادق الصديق، ثم اتسعت دائرة صلاته لتضم الدكتور الترابي الذي تربطه صداقة ومصاهرة بالسيد الصادق.
ذهبنا لدعوة العشاء بسيارة خاصة وفرها لنا الأخ الصديق كابتن النور زروق (رحمه الله)، وكان يقودها الأخ الصديق عبد الحافظ إبراهيم (سفير السودان فيما بعد) في طرقات جانبية ضيقة ملتوية ومظلمة، وكان أحياناً يزداد في السرعة حرصاً على موعد الزيارة، فيقول له دكتور الترابي (الذي كان يجلس إلى جانبه): تمهل قليلاً، فسيارتك طويلة والشارع ضيق.
وصلنا-على أية حال- في تمام الموعد، وكان في استقبالنا السيد المضيف والسيدة ربة المنزل. كان كلاهما من كبار السن، غير أن السيدة ربة المنزل كانت أكثر حيوية وأحر ترحيباً. وكانت تقول لنا- ولما نتمكن من الجلوس بعد- لقد أعددت لكم وجبة اسبانية خاصة، أتمنى أن تنال اعجابكم. فشكرناها ومنيت نفسي الأماني، إذ ظننت-وبعض الظن اثم-أن ما تقوله تلك السيدة يعنى- في الترجمة السودانية- بعضاً من خروف أو شيئاً من مشاوي أو نحو ذلك مما يقدم عندنا في المناسبات الكبيرة الخاصة.
لم يكن مضيفنا يكترث بما كانت تقول زوجته عن الوجبة الاسبانية-كأن الأمر لم يكن يعنيه. كما لم يكن-من الناحية الأخرى-مهتماً بالشخصين اللذين أتيا مع دكتور الترابي. لاحظت أنه بدين الجسم، قليل الحركة، ولا يكاد يغادر المقعد الضخم الذي يجلس عليه، ولكنه كان كثير الكلام، وكان مهتماً عموماً بالشأن السوداني، وكان مهتماً-بصفة خاصة- بالدكتور الترابي. ثم أخذ يحدثنا عن كتابه عن السودان والذي سيصدر قريبا، وسؤال من هنا، وتعليق من هناك، أخذ بعده يوجه الحديث نحو الدكتور الترابي- وكأنه كان يحمل خبراً: لقد زارني صديقك الصادق (يقصد الصادق المهدى بالطبع)، وكان يجلس على هذا المقعد الذى تجلس عليه الآن. وهنا توقف عن الحديث لأن السيدة ربة المنزل- جزاها الله خبراً- قد وضعت الطعام على المائدة، ودعتنا بصوت جهير إلى العشاء-غير مكترثة هي الأخرى بما كان يقول زوجها؛ ربما لأنها كانت تظن أنه كان يسترسل في ثرثرته المعتادة عن ذكرياته في السودان.
أقبلنا على الطعام فاذا هو جرة متوسطة الحجم من فخار عتيق (كما ظننت)، وحوله صحون مدورة ومقعرة أظنها أيضاً من الفخار العتيق نفسه. وقفت السيدة-مشكورة- وبيدها “كمشة” كبيرة، ففتحت الجرة فتصاعد منها البخار وأخذت تصب لكل منا شيئا مما تلتقطه “الكمشة”. نظرت فيما قسم الله لي من “الوجبة الاسبانية”، فاذا هو خليط من أعشاب وخضار وحيوانات بحرية متنوعة الأشكال والأحجام، لا يمكنك أن تميز فيها بين الرأس والذنب والأرجل، ولا تعرف ما إذا كانت ذات شوك أو بدون أشواك، وما إذا كان من المناسب أن تؤكل أو تشرب. بدأنا نأكل-أقصد نشرب- وبعضنا ينظر الى بعض، والسيدة قائمة على خدمتنا، وتسألنا من حين لآخر: أليست أكلة رائعة؟ هل تحبونها؟ قلت لها: نعم، نعم، أنها لذيذة (استغفر الله). على أن هذا لا ينفى أن السيدة كانت كريمة، وكانت تريد أن تعبر عن حبها وتقديرها لنا، ولعلها لم تكن تدرك بعد المسافة بيننا وبينها فيما يتعلق بثقافة الطعام.
ثم استأنف مضيفنا ما انقطع من حديثه (كأن شيئاً لم يكن)، وأخذ يقول للدكتور الترابي: قلت له (يقصد قلت للسيد الصادق): انظر يا فلان: إن ذهاب الرئيس السادات (وكان ذلك في اعقاب اغتيال الرئيس السادات في حادث المنصة المشهور) يعنى نهاية جيل من قيادة مصرية كانت بينكم وبينها عداوة تاريخية، كما يعنى بداية جيل جديد من قيادات لم تشهد فترة الاستقلال أو ما قبلها، ولم تتأثر بما كان بينكم من عداوات. وعليه، فأنا أرى أنه سيكون من المناسب أن تبعث بخطاب تهنئة للرئيس المصري الجديد (حسنى مبارك)، تدعوه فيه-بعد التهنئة- إلى تجاوز الماضي، وإلى فتح صفحة جديدة من العلاقات بينكم. قال السيد المضيف: يبدو أن السيد الصادق قد استحسن الفكرة، وقد وعدني بأنه سيفعل، ولكنى فوجئت بعد مدة قصيرة أن أحد أصدقائي المصريين يطلعني-متجهما- على فحوى رسالة “التهنئة” التي بعث بها السيد الصادق؛ قال إنها لم تكن رسالة تهنئة بقدر ما كانت نبشاً لتاريخ العلاقة السلبية بين حزب الأمة والحكومات المصرية.
سكت مضيفنا قليلاً ثم قال: عجبت لما حدث، ولكنى عدت باللوم إلى نفسي، فلو أنى كتبت تلك الفكرة بصورة مختصرة، وطلبت من السيد الصادق المصادقة عليها، لكان الأمر تم على أحسن ما ينبغي. ثم نظر إلى الدكتور الترابي نظرة عميقة، ولكن الدكتور الترابي لم ينطق ببنت شفة؛ لعله كان يتحسس طريقه فيما يليه من “الأكلة الاسبانية”.
ملحوظة (1):
كان مضيفنا في تلك الليلة هو السيد غراهام توماس (1921-2000)، وهو من الشخصيات المعروفة لكثير من السياسيين السودانيين-من شمال السودان وجنوبه. كانوا يزورونه في منزله، يتداولون معه الشأن السوداني، ويبوحون له ببعض الأسرار ويمدونه بكثير من المعلومات (وربما كانت السيدة حرمه تقدم لهم الأكلة الاسبانية ذاتها!)، وكان بدوره يمرر لهم أو عنهم بعض الرسائل، وربما كان واحداً من دبلوماسي الباب الخلفي، الذين يلعبون دور الوسيط بين حكومته والحكومات الأخرى (خاصة المصرية والكينية والاثيوبية). على أية حال، فان السيد غراهام قد نشر ذكرياته عن السودان في عام 1990 بعنوان موت حلم (Death of a Dream)، وربما كانت له كتب أخرى لم أطلع عليها، ولكنى علمت أنه قد تجمعت لديه مراسلات مع كبار الشخصيات السودانية، وأوراق عمل، ومذكرات وتقارير تساوى حمل بعير- نحواً من ثمانية صناديق أودعها قبل موته في خزانة بعض الجامعات البريطانية لمن يشاء من الباحثين.
ملحوظة (2):
ليس لدى ما يؤكد أو ينفى حقيقة ما دار بين السيد الصادق والسيد غراهام، أو ما دار بين الأخير وأصدقائه المصريين. ولكن الرواية في مجملها قابلة للتصديق، خاصة أن التنافر بين حكومة السيد الصادق والحكومة المصرية لم يكن سراً. وقد يكون السيد الصادق قد كتب “برقية التهنئة” بتلك الطريقة السلبية وفى ذاكرته معركة الجزيرة أبا بين الأنصار وحكومة الرئيس الأسبق جعفر النميري (1970)، التي اتهم فيها الطيران المصري (كما اتهم الطيار آنذاك حسنى مبارك)، أو لعله كتب ما كتب وقد عادت به الذاكرة إلى عام 1969، حيث اتهمت الحكومة المصرية بالضلوع في الانقلاب على حكومة حزب الأمة (بقيادة المحجوب)، أو لعل الذاكرة قد ذهبت به إلى أبعد من ذلك؛ وهو ما كان يخشاه السيد غراهام. وفى كل الأحوال فقد كانت للسيد الصادق حساباته وتقديراته، ولكن- ومهما كانت تلك الحسابات- فلا شك أيضاً أن السيد الصادق قد أضاع فرصة لترميم علاقات حزبه مع الحكومة المصرية، وربما العلاقات المصرية-السودانية. كان في مقدوره أن يسهم في صناعة تاريخ جديد عوضاً عن نبش التاريخ القديم؛ خاصة وقد كان هو شخصياً كثير الاستشهاد بقول جده المهدى: “من فش غبينتو خرب مدينتو”.
ملحوظة (3):
لاحظت أن دكتور الترابي لم يعلق اطلاقاً على القصة التي رواها السيد غراهام- رغم أن دعوة العشاء ذاتها ربما كانت من أجل هذه القصة. قلت لعله كان لا يريد أن يرمى بكلمة فينقلها السيد المضيف إلى الأطراف الأخرى، أو لعله كان يتساءل عما يقصده السيد المضيف من وراء تلك القصة. هل يريد-مثلاً- أن يقول له: اياك أعنى واسمعي يا جارة؟ ولكن-وكيفما كان الأمر فان معضلة ترميم العلاقات مع مصر، والتي كانت تواجه السيد الصادق، كانت هي أيضاً مما يؤرق الدكتور الترابي. فاذا كانت الحكومات المصرية تتوجس من زعيم يستند على تراث الثورة المهدية، ويرتاب في نوايا الحكومات المصرية، فإنها ستكون أكثر توجساً من زعيم يقود حركة إسلامية ذات جذور في المجتمع المصري نفسه، وذات تأثير فيما وراء مصر والسودان. كان الترابي يدرك هذا، فصار يعمل جاهدا فيما بعد على فتح قنوات للتواصل مع قطاعات في المجتمع المصري، واطلاع المؤسسة المصرية الحاكمة أن حركته الإسلامية في السودان ليست فرعاً من تنظيم الاخوان المصريين، وأنه يرغب في التعاون البناء, ولكن باءت كل محاولاته بالفشل-خاصة بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس حسنى مبارك في أديس أببا (يونيو 1995)، وما تبع ذلك من أحداث لا يتسع المقام لذكرها.
ملحوظة (4)
أما إذا عدنا أخيرا إلى الحديث عن واقع العلاقات المصرية السودانية في ضوء وقائع الحرب التي تدور الآن في السودان، فماذا نرى؟ وكيف نتصور تطور العلاقات في المستقبل القريب والبعيد؟ لا شك أننا سنلاحظ- كما لاحظ السيد غراهام- بزوغ لحظة تاريخية للتقارب المصري السوداني. ونستند في هذا على بروز ثلاثة أمرة أساسية: الأول هو أن القيادات في الجانبين المصري والسوداني- والتي عجزت عن التفاهم والتعاون البناء (النميري/حسنى مبارك/الترابي/الصادق)- قد أدركها الأجل المحتوم فغادرت المسرح السياسي (نسأل الله لهم الرحمة والمغفرةً)، مما قد يفتح المجال لقيادات جديدة لم تتأثر بالعداوات التاريخية؛ والأمر الثاني يتعلق بتصاعد المخاطر الأمنية على مصر والسودان معاً-مما يجعل الدفاع المشترك مسألة وجودية للجانبين لا تحتما التأجيل؛ والأمر الثالث هو أن الغالبية العظمى من الأسر السودانية التي شردت من ديارها بسب الحرب (نحو من أربعة ملايين أو يزيد) قد لجأت إلى مصر دون غيرها من الأقطار، وقد وجدت قبولا لم يتوفر لها في مجتمعات أخرى- مما يعنى أن العلاقات القاعدية بين الشعبين المصري والسوداني ما تزال سليمة، وأنها صالحة للتطوير والتعاون البناء من أجل مصلحة الشعبين.
وأخيراً، علينا أن نتذكر-ونحن نتحدث عن تعاون استراتيجي بناء- أن مجموع شعبي مصر والسودان يبلغ نحواً من مائة وخمسين مليوناً، وتمتد هذه الكتلة البشرية الهائلة من البحر الأبيض في الشمال إلى قريب من أعالي النيل في الجنوب، ومن البحر الأحمر في الشرق إلى حدود الصحراء الكبرى في الغرب. ولا ريب أن مثل هذا الكتلة الديموغرافية والجغرافية تستطيع (إذا صارت سوقاً موحداً) أن تطعم نفسها وتعلم أبناءها وتدافع عن وجودها- دون حاجة إلى قروض أو معونات من الخارج. كما لا تحتاج هذه الكتلة أن تتجه شرقاً أو غرباً؛ كل ما تحتاجه هو أن تتجه إلى داخلها، فتحرك طاقات حبيسة، وتستولد قيادات حكيمة قادرة على تجاوز الضغائن، وقادرة على احكام البناء بين يدي مشاريع استراتيجية أخرى(..) ذات عواصف لا تبقى ولا تذر. ولا قوة إلا بالله.