أمجد فريد
في خطوة كبيرة، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، عبر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، في7 يناير/كانون الثاني 2025، وقبل أيام من مغادرة الإدارة الديمقراطية برئاسة بايدن للبيت الأبيض، عن فرض عقوبات على محمد حمدان دقلو موسى (حميدتي)، قائد ميليشيا “قوات الدعم السريع” في السودان، بموجب الأمر التنفيذي رقم 14098.
وتشمل هذه العقوبات حميدتي لدوره في زعزعة استقرار السودان وارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي في دارفور.
وقد تضمن هذا التحرك إعلان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، تصنيف الأفعال والجرائم التي قامت بها ميليشيا “قوات الدعم السريع” على أنها جريمة إبادة جماعية في السودان، وهو تصنيف قانوني تترتب عليه عواقب جمة.
وتحت قيادة حميدتي، ارتكبت “قوات الدعم السريع” انتهاكات واسعة النطاق شملت العنف الجنسي والقتل على أساس عرقي وحرمان المدنيين من المساعدات الإنسانية بشكل منهجي. وقد أكد نائب وزير الخزانة، والي أدييمو، التزام الولايات المتحدة بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم، مشيرا إلى أن هذه العقوبات تهدف إلى حماية المدنيين السودانيين وتعزيز الانتقال الديمقراطي في البلاد.
إن تصنيف ميليشيا “قوات الدعم السريع” كمرتكِبة للإبادة الجماعية يعتبر تطورا قانونيا ذا أهمية كبيرة، حيث يضع هذا الاعتراف التزاما مباشرا على المجتمع الدولي للتحرك بموجب عدد من الأطر القانونية المنصوص عليها دوليا وتشمل:
1. اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)
تعرف اتفاقية الإبادة الجماعية وتلزم الدول بمنعها ومعاقبة مرتكبيها. وتشمل أهم أحكامها تعريف الإبادة الجماعية بحيث: تشمل أعمالا مثل القتل، والتسبب في أضرار جسدية أو نفسية جسيمة، أو النقل القسري للأطفال، عندما تكون بنية الإبادة لبعض أو كل مجموعة قومية، إثنية، عرقية، أو دينية. وتلزم الدول بمنع وقوع الإبادة الجماعية، ومحاكمة مرتكبيها، والتعاون مع الآليات الدولية، وتحدد هذه الاتفاقية الاختصاص العالمي الذي يسمح للدول بملاحقة مرتكبي الإبادة الجماعية بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة.
2. أطر القانون الجنائي الدولي
• المحكمة الجنائية الدولية (ICC): أنشئت بموجب نظام روما الأساسي (1998)، وتختص بملاحقة مرتكبي الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في حال عجز أو عدم رغبة الأنظمة الوطنية في الملاحقة.
• المحاكم الخاصة المؤقتة: مثل المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR) والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY)، التي عالجت الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم.
• المحاكم المختلطة: مثل الغرف الاستثنائية في محاكم كمبوديا (ECCC) التي تجمع بين النظم المحلية والدولية لمعالجة الفظائع الجماعية.
. القانون الدولي العرفي
حتى الدول التي لم تصادق على اتفاقية الإبادة الجماعية تعتبر ملزمة بموجب القانون الدولي العرفي الذي يحظر الإبادة الجماعية كقاعدة آمرة (jus cogens).
4. مبدأ المسؤولية عن الحماية (R2P)
تم اعتماده في وثيقة قمة الأمم المتحدة لعام 2005، ويقوم على المبادئ التالية:
• تتحمل الدول مسؤولية حماية شعوبها من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية.
• يتعين على المجتمع الدولي مساعدة الدول في الوفاء بهذه المسؤولية.
• إذا فشلت الدولة في الحماية، يمكن للمجتمع الدولي التدخل عبر وسائل دبلوماسية أو إنسانية أو عسكرية، غالبا بتفويض من الأمم المتحدة.
5. آليات الأمم المتحدة
• مجلس الأمن الدولي:يمكنه التصريح باتخاذ إجراءات، بما في ذلك العقوبات أو التدخل العسكري، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية أو وقفها.
• مجلس حقوق الإنسان والإجراءات الخاصة:يحقق ويقدم تقارير عن مخاطر الإبادة الجماعية من خلال لجان التحقيق والمقررين الخاصين.
• مكتب الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية والمسؤولية عن الحماية: يقدم إنذارات مبكرة ونصائح سياساتية لمنع الإبادة الجماعية.
6. مسؤولية الدول والمساءلة
بموجب مواد مسؤولية الدول عن الأفعال الدولية غير المشروعة “Articles on Responsibility of States for Internationally Wrongful Acts (ARSIWA)”، والتي وضعتها لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة، يمكن تحميل الدول المسؤولية عن التواطؤ في الإبادة الجماعية إذا قدمت دعما أو أخفقت في منعها.
ويشكل مبدأ مسؤولية الحماية (R2P) محورا أساسيا وسياقا قانونيا ملائما في التعامل مع الوضع في السودان. بالاعتماد ثلاثة أعمدة رئيسة:
1. مسؤولية الدولة: تقع على الحكومة السودانية مسؤولية حماية سكانها من الجرائم الخطيرة.
2. المساعدة الدولية: يلتزم المجتمع الدولي بمساعدة الحكومة السودانية في تحقيق هذا الهدف.
3. التدخل إذا فشلت الدولة: إذا عجزت الحكومة عن حماية شعبها أو تواطأت في الجرائم، يصبح للمجتمع الدولي الحق في التدخل بوسائل تتراوح بين العقوبات والدبلوماسية، وصولا إلى التدخل العسكري الإنساني.
في سياق السودان، يفرض هذا الاعتراف بالإبادة الجماعية ضغوطا كبيرة على المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات عاجلة. حيث إن قيام الولايات المتحدة بالاعتراف بأن ما تقوم به ميليشيا “قوات الدعم السريع” يدخل في إطار الإبادة الجماعية، وهو من الجرائم الكبيرة المنصوص عليها في تعريف وصياغة مبدأ مسؤولية الحماية، ينعكس بدوره على تعريف ما يحدث في السودان، ويحوله بشكل كبير من كونه نزاعا داخليا مسلحا لعملية إنفاذ القانون ومنع هذه الجرائم الفادحة.
يشير التاريخ إلى أن الاعتراف بالإبادة الجماعية غالبا ما يؤدي إلى تحركات دولية كبيرة. ومن أبرز الأمثلة:
1. البوسنة (1995): عقب الاعتراف بمذبحة سربرنيتسا كإبادة جماعية، كثف المجتمع الدولي تدخله العسكري والدبلوماسي، مما أدى إلى اتفاقية دايتون للسلام.
2. رواندا (1994): رغم التأخر في مخاطبة الوضع في رواندا، أدى الاعتراف بالإبادة الجماعية إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR) التي حاكمت كبار المسؤولين عن الجرائم.
3. دارفور (2004): وصف الولايات المتحدة للفظائع في دارفور بأنها إبادة جماعية دفع إلى إنشاء بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور (UNAMID) وإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق عمر البشير.
الملاحقات القضائية والعقوبات الدولية
إن الاعتراف بالإبادة الجماعية في السودان اليوم يحمل في طياته مسؤولية كبيرة على عاتق المجتمع الدولي للرد بشكل حاسم.
مع الاعتراف بالإبادة الجماعية، يمكن أن تتخذ الولايات المتحدة والأمم المتحدة والهيئات الدولية خطوات ملموسة تشمل:
1. الملاحقات القضائية الدولية: حيث يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أو محكمة خاصة إنشاء آلية قانونية لمحاكمة حميدتي وقادة “الدعم السريع” الآخرين على جرائم الإبادة الجماعية.
2. العقوبات الدولية الموسعة: كما أن من المتوقع أن يتم التوسع في فرض عقوبات إضافية تستهدف الشبكات المحلية والدولية التي تدعم “قوات الدعم السريع” ماليا ولوجستيا، وتوفر لها المساحات لاستمرار ارتكاب جرائمها.
3. العزلة الدبلوماسية: وكما أن المتوقع أن يترتب على هذا التصنيف تزايد الضغط السياسي والدبلوماسي على الدول الإقليمية الداعمة لميليشيا “قوات الدعم السريع”، مثل الإمارات وتشاد، لوقف دعمهما للشبكات المرتبطة بـ”قوات الدعم السريع”.
ورغم أهمية هذه الخطوات، فإن التنفيذ يعتمد بشكل كبير على الإرادة السياسية. وعلى الولايات المتحدة وحلفائها إصلاح سياساتهم الحالية وتاريخهم في النزاع السوداني. فقد قامت الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى بتقديم دعم مادي مباشر لإنشاء وتمويل كيانات وتحالفات سياسية تضم حلفاء لـ”قوات الدعم السريع”، مثل تحالف “تقدم”. وكما تعرضت إدارة بايدن لانتقادات شديدة لدورها في تخفيف مطالبات المساءلة منذ اندلاع الحرب، بما في ذلك رفض سفيرها السابق في السودان جون غودفري تسمية مرتكبي الاغتصابات والعنف الجنسي علنا، مما منح أفراد ميليشيا “قوات الدعم السريع” نوعا من أنواع الحصانة المؤسسية ومساحة أكبر لارتكاب المزيد من الجرائم والانتهاكات.
وبينما تمثل العقوبات والاعتراف بالإبادة الجماعية خطوة مهمة، فإن الحل الدائم يتطلب معالجة الأسباب الجذرية للصراع. ويجب تفكيك الشبكات الاقتصادية والسياسية التي تدعم “قوات الدعم السريع”، وضمان تحقيق العدالة عبر محاكمات عادلة للمتورطين في الجرائم، بالإضافة إلى معالجة مشكلة المقاتلين المحليين والمرتزقة الأجانب الذين نشرتهم الميليشيا في أنحاء السودان المختلفة.
يتطلب ذلك شراكة قوية بين المجتمع الدولي والحكومة السودانية والقوى المدنية الوطنية السودانية، بحيث تفتح هذه الإجراءات الباب للانتقال الديمقراطي وبناء مؤسسات دولة قادرة على حماية مواطنيها وحفظ حقوقهم.
إن الاعتراف بالإبادة الجماعية في السودان ليس مجرد تصنيف قانوني، بل هو دعوة للتحرك. ونجاح المجتمع الدولي في الاستجابة لهذا الوضع سيحدد ما إذا كان سيتم توفير العدالة لضحايا الجرائم المروعة أو استمرار الإفلات من العقاب.
تظل أعين العالم الآن على السودان، حيث تتقاطع المصالح الإنسانية والسياسية، وبينما يقف المجتمع الدولي عند مفترق طرق، يبقى الأمل معقودا على أن تكون هذه اللحظة بداية لإنهاء معاناة شعب طالما تعرض للخيانة والإهمال والتجاهل.