العاميَّة السودانية في الخطاب السياسي

خالد محمد أحمد
لعلَّ المراقب للخطاب السياسي السوداني يتبيَّن ميْلَ كثيرٍ من الساسة إلى استعمال العاميَّة عندما يتعلَّق الأمر بمحاولة إيصال دلالاتٍ ومعانٍ قد تعجز اللغة الفصيحة عن نقلها إلى المتلقِّي المُستهدَف. وغنيٌّ عن القول إن الحمولات الدلالية للألفاظ تختلف من مجتمعٍ إلى آخر، ومن منطقةٍ إلى أخرى، ومن سياقٍ إلى آخر.
فعلى سبيل المثال، استعمل د. الوليد مادبو كلمة (عوقة) العاميَّة السودانية مؤخرًا في حوارٍ تلفزيوني لانتقاد رئيس الوزراء كامل إدريس، لكنه سرعان ما تنصَّل من معناها العاميّ ليلوذ بكلمة (عائق) الفصيحة بعد أن همس المنتج للمذيع عبر سماعةٍ بأن الكلمة المستعملة قد تحمل دلالةً مسيئة. وكان الفريق أول عبد الفتاح البرهان قد استعمل قبله كلمةً عاميَّة تقابلها في اللغة الفصيحة كلمة (اغتصب)، وهو ما ضجَّت به الأسافير حينها.
الراجح أن كلا الرجلين آثر استعمال الكلمة العاميَّة على نظيرتها الفصيحة، لأنه ارتأى أنها (أوقع أثرًا) في سياقها على المتلقِّين. وتفسِّر الحالة الانفعالية التي اعترت كليهما لحظة التلفُّظ بالكلمتين انجرافهما نحو العاميَّة رغم عدم مقبوليتهما في السياق العام. ويبدو أن د. الوليد كان يُدرك أن كلمة (عائق) لن تُحدِث الأثر المطلوب مثل كلمة (عوقة) عند المتلقِّين السودانيين. أما الفريق البرهان، فمن الواضح أنه نطق الكلمة في غمرة انفعاله وهو يخاطب جنودًا اعتادوا سماع مثلها في أوساطهم، وخاصةً في عهود ما قبل التأصيل، ليُدرك لاحقًا أن الرسالة قد تجاوزت حدود جمهوره المقصود. غير أن استعمال البرهان اللغة العاميَّة البسيطة ليس بجديد؛ إذْ لجأ إليها قبل ذلك ربما للتقرُّب من الشعب، وخاصةً فئة الشباب؛ مستعملاً عباراتٍ مثل (أسياد الرصَّة والمنصَّة) و(واقفين قنا)، على غرار ما درج عليه حميدتي باستعمال كلماتٍ مثل (شرشحة)؛ لكن طبيعة توظيف العاميَّة لدى حميدتي تختلف؛ إذْ إنه يعوِّل على سليقته وفطرته في التعبير والإقناع نظرًا لمحدوديَّة تكوينه التعليمي والثقافي، وهو ما يجعل أسلوبه أقرب إلى خطاب زعماء الإدارة الأهلية التقليديِّين، الذين يتَّسم تواصلهم بالبساطة المباشرة أكثر من اعتماده على أدوات اللغة المصقولة أو المرجعية الثقافية.
قولي إن الكلمتين اللتين استعملهما د. الوليد والفريق البرهان كانتا أشدّ نفاذًا إلى مشاعر المتلقِّي، مردُّه أن العاميَّة أقرب إلى الوجدان، وأحيانًا تعبِّر عن معاني وأحاسيس تعجز اللغة الفصيحة عن إيصالها. ويُعْزَى ذلك إلى طبيعة اللغة العربية الازدواجية (diglossic)؛ إذْ إننا نتعلَّم اللغة الفصيحة في المدارس وقبلها الخلاوي، ويقتصر حضورها في مجالاتٍ، مثل نشرات الأخبار، والصحافة، والخطب الدينية، بينما نكتسب العاميَّة من أمهاتنا، وهي السائدة في لغتنا المحكيَّة اليومية.
ويجسِّد هذا التوجُّه في مخاطبة الجمهور أيضًا تجربة الراحل الصادق المهدي، الذي كان سياسيًا ذكيًا لا يُشَقُّ له غبار، ولعلَّه أدرك أن السياسة لم تَعُد حِكرًا على طبقةٍ معينة في ظلّ التحوُّلات المجتمعية الكبيرة الناجمة عن الطفرة التقنية الهائلة، كما فطِن إلى مضاء سلاح اللغة في النفاذ إلى قلوب وعقول قطاعاتٍ عريضة من الشعب. وربما لهذا السبب كان كثيرًا ما يتبسَّط في لغته، ويلجأ إلى العاميَّة، ودونكم عباراته المشهورة، مثل (بوخة المرْقة) و(دريبات القشّ) وغيرها من الكلمات والعبارات. فهل أضرَّ ذلك بمكانته السياسية والاجتماعية، أم قرَّبه أكثر من قطاعات أوسع من الشعب؟
وقد شهِدت فترة الإنقاذ كثافةً في توظيف العاميَّة في تصريحات المسؤولين السودانيين، وخاصةً عند ارتجال الخُطب العامة. وبما أن المصطلحات العاميَّة لا تُجدي نفعًا في سياق لغة الأخبار الفصيحة، كان المحرِّرون عادةً يلتجئون إلى (تفصيح) تلك العبارات لتلائم طبيعة النشرات. فعلى سبيل المثال، نُقِل عن نافع علي نافع، مستشار الرئيس السابق عمر البشير، عبارة (لحس الكوع)، كما نُقِل عن الرئيس نفسه عباراتٌ سودانية قُحَّة عندما كان يخاطب أنصاره، ربما لإضفاء طابعٍ أسلوبي (stylistic effect)، مثل (يبلّوها ويشربوا مويتها) في إشارةٍ إلى مذكرةٍ أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية لإيقافه استنادًا إلى اتهاماتٍ بارتكابه جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور. وقد اضطر المحرِّرون، وخاصةً الذين نقلوا إلى لغاتٍ أخرى، إلى استبدالها بمقابلاتٍ فصيحة مثل (لا قيمة لها). وهذا يتَّسق مع ما يُعْرَف في علم اللغويات بالتسميل أو التلطيف ((euphemism)، أي الاستعاضة عن كلماتٍ غير لائقة في سياقاتٍ بعينها بأخرى تناسب المقام (register) والجمهور أو المتلقِّين (audience)، ومثال ذلك ترجمة ألفاظٍ، مثل اللعنة، وسُحقًا، وتبًا لك، وصويحباتها في تنصيص الأفلام الأجنبية (subtitling).
ويبقى السؤال الجوهري: هل أدرك الساسة والمسؤولون السودانيون ضرورة تحوير طبيعة خطابهم ووسائل تواصلهم مع الجمهور في ظلّ التحوُّلات الكبيرة التي أحدثتها الثورة التقنية؛ إذْ كسرت احتكار طبقاتٍ معينة مجال السياسة على مدى فتراتٍ طويلة، وبدَّلت وسائل تشكيل الرأي العام من أدواتٍ (تلقينيَّة تقليديَّة) في عهودٍ خلَت، إلى أدواتٍ (تفاعليَّة حديثة) تقتضي مخاطبة العامَّة بلسانهم عملاً بمبدأ (هي بضاعتكم وقد ردَّت إليكم)؟



