الصفقة الكبيرة الخاسرة (5-7) ترتيبات ما قبل الحرب

التيجاني عبد القادر حامد

25 يوليو 2024

وليتم تنفيذ “الصفقة” بدقة رُسمت لحميدتي ثلاث خطوات تكتيكية يسير عليها، وهي: التصريحات الإعلامية، الترتيبات الدستورية، الاستعدادات العسكرية-الميدانية. أما من حيث التصريحات الإعلامية- وهي الخطوة الأسهل- فلم تمض سوى شهور قلائل على إبرام الصفقة إلا وقد بدأ حميدتي في إطلاق التصريحات المتفق عليها، فأعلن بصورة مفاجئة عن تخليه عن الحكم للمدنيين. ورغم أنه لم يتخل عن موقع “النائب” الذي دبر الإنقلاب، إلا أن قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي-سارعت (السبت 23 يوليو 2022) إلى الإشادة بذلك الإعلان (المتفق عليه سلفاً)، وقالت في بيان لها إن بيان حميدتي قد حوى إقراراً إيجابياً ببعض مطالب الحركة الجماهيرية، أهمها ضرورة تسليم السلطة كاملة للمدنيين، وخروج المؤسسة العسكرية كلياً من السياسة (1). وأردف الفريق حميدتي ذلك التصريح بتصريح ثان(2) قائلاً إن الجيش فشل في تصحيح المسار، والسودان يسير نحو الأسوأ. وفي سؤال ما إذا كان يفكر في الترشيح للرئاسة قال إنه ليس له طموح سياسي ولكن “إذا رأينا السودان ينهار سنكون حاضرين”. ثم أراد وللمرة الثالثة أن يؤكد موقفه الجديد، فاختار هذه المرة ولاية كردفان (حيث توجد حاضنته القبلية)، وذلك أثناء مخاطبته لملتقى الإدارات الأهلية لولايتي غرب وجنوب كردفان. كان يتحدث في ذلك اللقاء وقد تقمص تماماً دور رئيس الجمهورية الذي وعد به في اجتماعه مع مجموعة الأربعة، حيث أكد أنه “لن يسمح” بعودة السودان لما قبل سقوط نظام الرئيس المعزول، في إشارة إلى القوى (الإسلامية والأهلية) التي كانت تقف مع مبادرة الخليفة الجد. ولم يفت على بعض الصحف المحلية أن تلاحظ ذلك التحول الكبير، فجاء العنوان الرئيس في صحيفة سودان تربيون: حميدتي يطلق تصريحات مثيرة وينتقد السماح للمتظاهرين بالوصول للقصر وقمع آخرين.(3) وواضح من تلك الإشارة أن حميدتي كان يريد أن يغازل شباب الثورة الذين كانوا يتظاهرون ضد الانقلاب الذي كان هو أحد أعمدته، فكرر القول: “أنا مع التغيير، حتى الشباب الذين يسيئون إلى في الشوارع أنا معهم”. ورغم أنه لم يهاجم الفريق البرهان ولكنه أطلق إشارات سالبة إلى الفريق كباشي عضو مجلس الثورة والشريك الأساسي في الانقلاب، على خلفية النزاع القبلي بين المسيرية والنوبة في مدينة لقاوة، واتهمت قوات الدعم السريع بالمشاركة فيه لصالح المسيرية.

على أن التصريحات وحدها لم تكن كافية، إذ لا بد من غطاء دستوري مناسب تستطيع قوى الحرية والتغيير أن تستعيد من خلاله ما صار يعرف ب”شراكة الدم”(4) مع من كانت تصفهم بالمكون العسكري-الانقلابي، فيتثنى لها التموضع من جديد في الساحة السياسية. كما كان الفريق حميدتي أيضاً في حاجة مماثلة إلى غطاء دستوري يستطيع من خلاله أن يتحول من انقلابي متآمر إلى ديمقراطي نبيل. وجاء ذلك الغطاء فجأة من ركن غير متوقع تجرجره لجنة مؤقتة لنقابة المحامين.

نقابة المحامين وترتيباتها الدستورية:

ولكي تكتسب الترتيبات الدستورية المقترحة زخماً يخفي مصدرها ومحتواها، فقد أريد لها أن تخرج في صورة احتفالية صاخبة. فشهدت دار المحامين بضاحية العمارات-كما جاء في بعض التقارير الصحفية(5)- تجمعاً غير مسبوق، تحت سرادق ضخم كان لافتاً فيه حضور سفراء مجموعة الرباعية (الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات)، إلى جانب سفراء ألمانيا والنرويج وكندا والسويد وأسبانيا وآخرين. الاجتماع المنعقد كان عبارة عن ورشة عمل دعت لها اللجنة المؤقتة لنقابة المحامين لعرض مشروع دستور مقترح للفترة الانتقالية يلغي الوثيقة الدستورية الأساسية التي كان يقوم عليها الائتلاف الحاكم السابق للانقلاب. ويتضمن المشروع بنوداً كثيرة لا مكان الآن لتعدادها ولكن اللافت فيه أمران، الأول: إلغاء القرارات التي صدرت قبل أو في أو بعد 25 أكتوبر 2021، بما في ذلك الاتفاقات الإقليمية والدولية (والمقصود بالطبع الاتفاقية السودانية-الروسية)؛ أما الأمر الثاني فهو ما ورد في شأن جريمة فض الاعتصام (يونيو 2019)، وفى شأن الحصانات لشاغري المواقع الدستورية. إذ أشار المشروع من طرف خفي إلى المسألة الجوهرية الحساسة المتعلقة بجريمة “فض اعتصام القيادة”، فنص على تكوين لجنة وطنية جديدة (متجاوزاً اللجنة السابقة برئاسة المحامي نبيل أديب) توكل لها مهمة التحقيق في كافة الجرائم المرتكبة خلال النزاع المسلح في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، مع إعادة تشكيل اللجنة القومية للتحقيق في الانتهاكات والجرائم التي ارتكبت في3 يونيو 2019 (أي جرائم فض الاعتصام). وأشار-في بند الحصانات- على عدم جواز اتخاذ إجراءات قانونية في مواجهة شاغري المواقع السيادية العليا بالأجهزة النظامية عند صدور الدستور بحكم مناصبهم الدستورية أو العسكرية بشأن أي مخالفات قانونية تم ارتكابها قبل توقيع الدستور الانتقالي. ثم أجرت مسودة الدستور تعديلاً جوهرياً على تكوين وصلاحيات مجلس السيادة، فجعلت رئاسته دورية، وجعلت من ضمن مهامه منح “العفو الشامل والمشروط وإسقاط العقوبة”. وبناء على هذا فلم يكن مستغرباً أن يكون الفريق حميدتي أول من يبدي ترحيباً حاراً بهذه المسودة دون الاطلاع على بنودها الأخرى، إذ أن هذه البنود توفر له ولقواته حصانة قانونية كافية، ثم تفتح أمامه الباب واسعاً ليكون رئيساً محتملاً لمجلس السيادة (طالما هي رئاسة دورية)، كما يجعله في موضع “يمنح العفو ويسقط العقوبة” إذا تغيرت الظروف وتحرك ملف “الاعتصام” ووصل ساحة القضاء. أما حضور سفراء مجموعة الأربعة فيمثل دعما قوياً للفريق حميدتي، وتأكيداً للالتزام بالصفقة التي أبرمت معه سابقاً.

أما في الجانب الآخر فان المكون العسكري (جناح البرهان) قد وجد نفسه في مكان حرج، إذ لم يكن في مقدوره أن يعترض بصورة كلية على وثيقة يعلم أن الآلية الرباعية تقف من ورائها، فلجأ إلى مدخل “التعديلات”. فتقدم بتعديلين أحدهما في باب الحصانات والآخر في إجراءات التحقيقات المتعلقة بفض الاعتصام. فاقترح في بند فض الاعتصام أن: “تتعهد قيادات القوات المسلحة وقوات الدعم السريع بالمساعدة وعدم الاعتراض أو الإعاقة في تنفيذ الآتي: الإسراع بالانتهاء من تحقيق فض اعتصام يونيو 2019، وتحديد المسئولين جنائياً عنها، وتكوين مفوضية العدالة الانتقالية، وتصميم عملية شاملة بمشاركة أسر الضحايا تضمن كشف الحقائق، وإنصاف الضحايا والمصالحة الشاملة والإصلاح المؤسسي الذي يضمن عدم تكرار جرائم الماضي”. وهذا نص أدخلته القوات المسلحة لاعتقادها أنها لن تخسر من ورائه شيئاً، أما بالنسبة للفريق حميدتي وشركائه في الرباعية فهو نص ثقيل ومرير يصعب من ثم ابتلاعه. أما النص الآخر الذي سيقضى على المسودة وعلى الصفقة معاً فهو ما ورد في التعديل الثاني الذي تقدم به المكون العسكري في باب الحصانات.  فبدلاً من الاكتفاء بما ورد في المسودة من القول “بعدم جواز اتخاذ إجراءات قانونية في مواجهة شاغري المواقع السيادية العليا بالأجهزة النظامية عند صدور الدستور بحكم مناصبهم الدستورية أو العسكرية بشأن أي مخالفات قانونية تم ارتكابها قبل توقيع الدستور الانتقالي” جاء في التعديل: ” ما لم يكن ذلك الفعل أو الامتناع موضوع المخالفة ينطوي على اعتداء جسماني أمرت به القيادة العليا فرداً أو عضواً بشكل مباشر بارتكابه”؛(6) أي أنه لا حصانة للقيادات الدستورية والعسكرية العليا إذا أثبت التحقيق أنها متورطة في جريمة فض الاعتصام. وكانت هذه بلا شك تعديلات صادمة للفريق حميدتي، لأنها ستقوض التعهد الذي أبرمته معه الآلية الرباعية، مما جعل مسودة المحامين ولجنتهم يقذفان معاً الى سلة المهملات (تأكد فيما بعد أن لجنة المحامين لجنة محلولة ليس لها سند قانوني أو تمثيل حقيقي للمحامين السودانيين، كما رشح أن المسودة التي طرحت باسمهم ما هي إلا ترجمة لوثيقة أعدتها إحدي المنظمات الأمريكية.(7)  نواصل

الهوامش:

(1) بي بي سي العربية، 24 يوليو 2022

(2) بي بي  سي العربية، 1 أغسطس، 2022

(3) صحيفة سودان تربيون (27 نوفمبر 2022)

(4) انسحب الحزب الشيوعي السوداني من قوى الحرية والتغيير (الائتلاف الحاكم آنذاك) في 7 نوفمبر 2020، واعتبر أن شراكة “قحت” مع العسكريين هي “شراكة دم” ولن تقود إلى تحقيق مطالب الثورة السودانية. انظر صحيفة مدار، 30 سبتمبر 2021).

(5) الجزيرة نت، 15 سبتمبر 2022

(6) للاطلاع على ملخص لهذ التعديلات انظر: صوت بيروت انترناشونال (SBI)، 15 نوفمبر 2022. www.sawtbeirut/world-news 2022

(7) تعرف هذه المنظمة باسم منظمة السياسات والقانون الدولي (the Public International law & Policy Group)، وتضم في فريقها عناصر من قوى الحرية والتغيير، وتقدم خدماتها القانونية للراغبين. (انظر موقعها على النت. www.publicinternationallawandpol

icygroup.org)

Exit mobile version