الصفقة الكبيرة الخاسرة (2-7).. صعود الفريق حميدتى- هل كان للرباعية دور فيه؟
التيجاني عبد القادر حامد
ليس خافياً أن الرئيس السوداني المعزول الفريق البشير وقادة مخابراته كانوا يبحثون عن شخصية “ظرفية” تنجز لهم بعض المهام، فالتقطوا محمد حمدان دقلو (حميدتى) من “الأقاصي” ليكون قائداً لما عرف بقوات الدعم السريع. كان الرئيس البشير يريد-من ناحية- أن يقاتل المليشيا المتمردة في دارفور بمليشيا مماثلة، وليس بالقوات المسلحة النظامية (التي انهكتها الحروب السابقة في جنوب البلاد وشرقها). كما كان يريد-من ناحية أخرى- أن يجعل بينه وبين قواته النظامية ذاتها حاجزاً يحتمى به إذا ساءت الأمور. وحينما ارتكبت قوات الدعم السريع الفظائع في دارفور (2003) لم تحل-كما كان ينبغي-وانما أسندت لها حراسة الحدود، ثم أرسلت للقتال في اليمن ضمن قوات التحالف بقيادة المملكة السعودية والامارات (أخطاء بعضها فوق بعض). وفى كل هذه المهام (الخاطئة الخطيرة) كان الفريق حميدتى هو الشخصية “الظرفية” بامتياز، وفى كل هذه المهام كانت قوات الدعم السريع تتبع-من حيث الشكل القانوني- إلى القوات المسلحة، ولكنها من حيث الواقع الميداني صارت هي “قوات حميدتى” وكان من الطبيعي أن يحس حميدتى أن القوة التي توفرت لديه، وحولته من قائد مليشيا (أشعث وأغبر) إلى عميد ولواء ثم فريق، يمكن أن تؤهله لما هو أكبر. فبدأ منذئذ يبالغ في تقمص الدور المرسوم له، وصار يُفصح في زهو عن قدراته العسكرية والسياسية مخاطباً جنوده (باللهجة السودانية الدارجة التي يتقنها): “البلد دي بلفها عندنا (يقصد مفتاح شبكة أنابيب السلطة)، نحنا أسياد الربط والحل…وزول ما بكاتل ما عندو رأى…ويوم الحكومة تسوى ليها جيش بعد داك تكلمنا. ارموا قدّام” . أي أنه أراد أن يقول (لحكومة البشير وللنخب المعارضة) إن الطريق إلى السلطة السياسية العليا يمر من خلال قوات الدعم السريع، وأن من لا جيش لديه ولا قدرة له على القتال فلا يُلتمس عنده رأى. ولم يكن ليصدر عنه مثل هذا القول لولا أنه قد تيقن أن الجميع (بما فيهم رئيس الجمهورية وقواته النظامية) يحتاجون إليه. ولكن لم يكن يتوقع أن من القوى الإقليمية الكبرى من سيحتاج إليه أيضا. ولكنه تيقن من ذلك بعد أن تضعضعت سلطة الرئيس على عبد الله صالح في اليمن، واستولى الحوثيون على السلطة، وبدأت المملكة السعودية والامارات يبحثان عن جنود يقاتلون لها في جبهة اليمن.
لم يكن خافياً على المراقبين للمشهد السياسي السوداني أنه ومنذ أن هرعت قوات التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن (بقيادة السعودية والامارات، في 25 مارس 2015)، سيُطلب من السودان الانضمام إلى تلك القوات. ولم يكن مستبعداً من الرئيس البشير-وقد بلغت حكومته أضعف حالاتها- أن ينضم إلى دول التحالف، وأن يرسل عناصر من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع (بقيادة حميدتى وتنسيق البرهان) للمشاركة في حرب اليمن-طمعاً في الدعم الاقتصادي والسياسي.
وسارت حرب اليمن بالطريقة التي سارت عليها، ولكنها عوضاً عن أن تفتح للرئيس البشير خزائن الحلفاء-كما كان يحلم- فقد فتحت شهيتهم للإطاحة به. إذ أن حرب اليمن جعلت عيون الحلفاء تحدق في الجندي السوداني، وفى ما يتمتع به السودان من مخزون عسكري لا يتوفر لغيره (ناهيك عما يمتلك من الموارد المادية كالذهب والمياه والمواشي والشواطئ). وحينما بدأت حكومة البشير تترنح-تحت وطأة الضائقة الاقتصادية والأزمة السياسية- صارت الدول الكبري (الولايات المتحدة وبريطانيا) وحلفاؤها الاقليميون (السعودية والامارات) يتقاسمون بنهم الملف السوداني، ويرسمون خريطة لمرحلة ما بعد حكومة الرئيس البشير. وصار “الجنرالان- البرهان وحميدتى- على رأس القائمة المقترحة لقيادة السودان، مع ترجيح-في المحصلة النهائية- لكفة حميدتى. ويعود ترجيح كفة الفريق حميدتى لثلاث خصائص تميزه عن البرهان: الخاصية الأولى أنه يقود مليشيا شبه مستقلة عن القوات العسكرية النظامية، فيمكنه التحكم فيها وتحريكها بطريقة سلسة ليست متيسرة للفريق البرهان؛ والخاصية الثانية أن الفريق حميدتى يمثل نمط الشخصيات “الظرفية” بلا منازع، فهو شخص مغامر يستطيع أن ينفذ أخطر المهام دون تردد، على عكس شخصية البرهان الحذرة والمترددة؛ والخاصية الثالثة أن الفريق حميدتى له ملف سابق في انتهاكات حقوق الانسان (دارفور مثلاً) فيمكن الإمساك به وابتزازه من خلال ذلك الملف. وفقاً لهذا التصور عمل ممثلو هذه المجموعة بصورة منتظمة على تشكيل المشهد السياسي في السودان، وكانت لهم اجتماعات وتفاهمات مع بعض القوى السياسية السودانية وثلة من رجال الأعمال في أديس أبابا (لاحظ دور الرئيس الأثيوبي)، وفي الخرطوم. . وفى إطار تلك التفاهمات وضعت ترتيبات لفترة انتقالية تكون شراكة بين قيادة عسكرية (يقودها البرهان وحميدتى)، وقيادة مدنية يقودها د. عبد الله حمدوك. وهي الخطة التي صارت تعرف في أدبيات الحزب الشيوعي السوداني بنظرية “الهبوط الناعم” ، أي أن الولايات المتحدة وحلفاؤها الاقليميون كانوا يتخوفون من عواقب الثورة الشعبية في السودان، مما جعلهم يكتفون باستبعاد الإسلاميين من المفاصل العسكرية والأمنية للسلطة، وتكوين تحالف عسكري-مدني هش يعمل تحت رعايتهم، فلا يقوم إلا بإجراء تغيرات شكلية لا تطال البنية الاقتصادية المرتبطة بمؤسساتهم، ولا يخرج على التحالفات الإقليمية الموالية لهم.
ولما هرعت اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ (تحت الضغط الشعبي الهائل) فأزاحت الرئيس البشير عن السلطة، ونصبت وزير دفاعه- الفريق عوض بن عوف رئيساً لمجلس عسكري انتقالي، رفض الشارع السياسي (الملتهب بالثورة) الاعتراف بذلك المجلس باعتبار أن “اللجنة الأمنية” ما هي إلا امتداد لحكومة البشير، كما رفض الفريق حميدتى المشاركة في المجلس، ورفضت الولايات المتحدة الاعتراف به. لم يكن مستغربا-والحالة هذه- أن يعلن الفريق ابن عوف (الشخصية الظرفية الأخرى) تنازله عن القيادة بعد يوم واحد من أداء القسم. ولكن المستغرب أنه تنازل لمفتش عام الجيش فريق أول عبد الفتاح البرهان (وليس للقائد العام للجيش مثلاً). أما من الناحية الأخرى فلم يكن مستغرباً أن يقع اختيار الفريق البرهان على الفريق حميدتى (شريكه في حرب اليمن) ليكون نائباً له- رغم أن الفريق حميدتى كان عضواً في “اللجنة الأمنية” لحكومة البشير، مثله في ذلك مثل الفريق ابن عوف. مما يعنى أن الفريق البرهان كان يسير وفقاً “لتفاهمات” سابقة. ويتأكد هذا حينما ظهر فجأة في صفوف المعتصمين بساحة القيادة العامة للجيش وهو يتحدث إلى رئيس حزب المؤتمر السوداني-إبراهيم الشيخ؛ ويتأكد حينما نعلم أن الولايات المتحدة أبدت ترحيباً بانتقال السلطة إلى مرشحيها- البرهان وحميدتى، وأن المملكة السعودية وعدت مبدئياً بإيداع 500 مليون دولار في المصرف المركزي في السوداني لصالح مرشحيهما. ويتأكد هذا-أخيرا- حينما قطع د. حمدوك بأن إعادة الجنود السودانيين من اليمن متروك للحكومة المنتخبة-في إشارة لتطمين الشركاء الإقليميين بأن الأمور ستسير وفق الخطة.
ولكن الشارع السياسي الملتهب بالثورة لم يكن مستعداً لقبول هذه الصفقة، وظل الثوار يعتصمون أمام القيادة العامة- منادين باستبعاد المكون العسكري من المشاركة في حكومة الفترة الانتقالية. وعند هذه النقطة صار من الواضح لمجموعة الأربعة أن الاعتصام الجماهيري المتطاول حول القيادة العامة (أبريل-يونيو 2019) هو عقبة يتعذر معها اكمال الصفقة، فتشاورت أطراف المجموعة وضغطت في اتجاه “فض الاعتصام”، فوقعت الجريمة في الثالث من يونيو 2019، حيث هجمت قوات عسكرية ساحة اعتصام المتظاهرين أمام القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم، وقتل في تلك الحادثة العشرات من المواطنين الأبرياء. ورغم بشاعة الجريمة إلا أن ذلك لم يغير شيئاً من الخطة المرسومة، إذ صيغت وثيقة دستورية على عجل، ووقع عليها المكونان-العسكري والمدني (أغسطس 2019)، فصار بموجبها الفريق البرهان رئيساً لمجلس السيادة، ود. حمدوك رئيساً للوزراء. ومع أن الفريق حميدتى صار نائباً لرئيس مجلس السيادة إلا أن أصابع الاتهام بجريمة فض الاعتصام ظلت تشير إليه، وأضيفت-من ثم- إلى سجل الجرائم الموجهة إليه وإلى قواته.
ولما كثر الجدل حول هوية القوى العسكرية التي قامت بالاعتداء، وحول الجهة التي أصدرت لها الأوامر، أضطر الفريق شمس الدين كباشي- عضو المجلس العسكري- أن يفصح عن الرواية الرسمية في لقاء صحفي، ومفادها أن المجلس العسكري الحاكم قد اتفق مع قوى الحرية والتغيير على تنظيف منطقة كولمبيا دون المساس بساحة الاعتصام، ووضعت خطة لذلك، ولكن وقعت بعض الأخطاء في التنفيذ، فحدث ما حدث. وتختلف عن هذه الرواية الرسمية روايات أخرى لشهود عيان ولبعض الناجين، ويشير معظمها بأصابع الاتهام إلى الفريق حميدتى وقوات الدعم السريع. كان أشد هذه الروايات وضوحاً (وأقرب إلى التصديق من قبل الحكومات الغربية) تقرير هيومان رايتس وتش الذي أشار صراحة إلى أن قوات الدعم السريع فتحت النار (في فجر الثالث من يونيو 2019) على متظاهرين عزل، فقتلت الكثير منهم فوراً، واغتصبت وطعنت وضربت المتظاهرين وأذلت الكثيرين وقصت شعورهم الخ).
ولحسم هذه القضية كون رئيس مجلس الوزراء (د. عبد الله حمدوك) لجنة برئاسة المحامي نبيل أديب للتحقيق في الجريمة. ويقال إن اللجنة استمعت إلى أكثر من 3 ألف شاهد، وتلقت أكثر من 150 من تسجيلات الفيديو. وكشفت-في تقرير مرحلي تسلمه رئيس الوزراء- أن عملها يسير بوتيرة متقدمة. ولكن رئيس اللجنة ظل يصرح من حين لآخر أن لجنته تواجه كثيرا من العراقيل، بل ويتهم صراحة “أجهزة حكومية بعدم التعاون، ورفضت تسليم مقاطع الفيديو المطلوبة من كاميرات المراقبة الموجودة حول موقع الاعتصام”. وحينما تكاثرت الاتهامات ضد قوات الدعم السريع اضطر الفريق حميدتى نفسه أن يقر بأن عناصر من قواته قد شاركت في فض الاعتصام، ويكشف-أثناء مخاطبته مبادرة نداء مقرن النيلين للمرأة السودانية بقاعة الصداقة بالخرطوم- عن توصل لجنة التحقيق في أحداث فض الاعتصام إلى المتسبب الرئيسي والمنسق لها، متعهداً بتقديمه للمحاكمة، مشيراً إلى التحفظ على 14 عسكري، خمسة منهم سجلوا اعترافاً قضائياً، قائلاً: ناسنا ما ملائكة، ومحاكمنا بالميدان شغالة.
وكيفما كان الأمر، فقد أُخليت الساحة من الثوار، وتمكن الفرقاء من التوقيع على الوثيقة الدستورية (أغسطس 2019) ومن تشكيل الائتلاف الحاكم، وصار الفريق حميدتى-رغم ما حدث- نائباً لرئيس مجلس السيادة، غير أن ملف الجريمة-إضافة إلى ملفاته السابقة- ظل معلقاً على رقبته-تماماً كما خُطط له. وصارت اللجنة الرباعية وحلفاؤها من القوى المدنية (قحت) يحتفظون بهذا الملف ويلوحون به في وجه الفريق حميدتى كلما شعروا أنه قد يخرج على النص. أدرك الفريق حميدتى من جانبه أنه ما لم يطوى هذا الملف سيطاح به هو وستطوى صفحته-طال الزمان أو قصر. وبناء على هذا يمكن أن يُفهم لماذا تسممت العلاقات بينه وبين قوى الحرية والتغيير، كما يمكن أن يُفهم لماذا عمل بكل جهده لعرقلة أعمال لجنة التحقيق في فض الاعتصام، ولماذا انخرط في تدبير انقلاب 25 أكتوبر 2021..