السياسي السوداني والكاميرا: غياب الصنعة

خالد محمد أحمد
يلاحظ المتأمّل في الحوارات التلفزيونية، التي تُستضاف فيها وجوهٌ سياسية سودانية، ضعفًا واضحًا في أداء كثيرٍ من المشاركين فيها. لا تروم هذه المقالة تجريحًا أو تشهيرًا، بل هي دعوةٌ مفتوحة لكلّ سياسيٍ، أو مسؤول، أو محلّل سوداني إلى أن يتعامل مع الاستضافات التلفزيونية بشيءٍ من الجدّية، لا على أنها مناسبةٌ للظهور الاجتماعي أو التفاخر وسط المعارف؛ لأن الكاميرا لا ترحم، والكلمات لا تسقط بالتقادم، وكلّ عبارةٍ أو إيماءة قد تتحوَّل إلى ترند، أو أداة خصومة سياسية، أو حتى قرينة في ملفٍّ دبلوماسي.
فما هي أوجه القصور؟
يتلخَّص الخلل إجمالاً في ضعف التحضير، وسوء تقدير المشهد الإعلامي، وعدم الإلمام بطبيعة المنصَّة، والاستخفاف بالمشاركين الآخرين أو بالمذيع.
على المدعو إلى الحوار أن يُحسِن اختيار المنصَّة التي يظهر فيها؛ فمن الخطأ أن يقبل المشاركة في قناةٍ لا يعرف نهجها التحريري أو خطَّها العام. القنوات ليست متشابهة، ولكلّ منها زاويتها الخاصَّة، ومنطلقاتها، وقاموسها. لذا، يجب أن يتساءل المدعو: لماذا اختارتني هذه القناة؟ ما الرسائل التي يمكن أن تُبْنَى على مشاركتي؟ وهل وجودي يخدم وضوح الموقف، أم يُستغلّ لإضفاء شرعيةٍ على نقاشٍ ملغوم؟
كثيرٌ من الإخفاقات تعود إلى ضعف الإلمام بموضوع الحوار أو المُعْطَى الخبري الذي دُعِي من أجله الضيف. بعض المشاركين لا يطَّلعون على المبادرات، ولا يتابعون التطوُّرات، ولا يملكون إحصاءاتٍ حديثة. وهذا عيبٌ قاتل، وخاصةً في الحوارات المبنيّة على مستجداتٍ آنية. إنْ لم تكن متمكّنًا من الملفّ، فاعتذر. بعض الضيوف يظهرون وكأنَّهم يسمعون بالأخبار للمرَّة الأولى، أو يكرّرون عباراتٍ عامة لا تسمن ولا تغني. المذيع المحترف يلتقط هذا الضعف بسرعة، ويحوّله إلى إدانةٍ ضمنية. لذا، لا تدخل إلى المقابلة إلا بعد أن تمُسِك بالمادَّة، وتفهم السياق، وتُحصّن موقفك.
المفاجآت وصفةٌ للفشل والتخبُّط. لا تقبل المشاركة قبل معرفة الضيوف الآخرين، لأن ذلك يُعينك على تقدير مستوى النقاش، وتحضير الردود المناسبة، وتوقُّع طبيعة الهجوم أو الإحراج. لا عيب في الاعتذار إذا غاب التوازن، أو إذا كانت الاستضافة تخصُّصية وأنت غير متمرّس في المجال. مثال ذلك أن تشارك في حوارٍ عن سدّ النهضة أمام خبيرٍ تقني في المياه والسدود. مشاركتك هنا محفوفةٌ بالمخاطر وقد تجعل منك أضحوكة. وقد رأينا سياسيين بارزين يفقدون السيطرة في مناظراتٍ عربية كبرى، بسبب هذه الأخطاء؛ إذْ فاجأهم السياق، أو جهلوا خصومهم، أو استهانوا بطبيعة المنصَّة.
من الخطأ أيضًا القبول بالمشاركة في قناةٍ معروفة بالتحامل السافر أو التحيُّز؛ فالانسحاب الهادئ أجدى من أن تُستخدَم كومبارسًا، أو أن تُستدرَج إلى فخّ. قبولك الظهور يجب أن يكون نابعًا من حساباتٍ دقيقة، لا مجاملة ولا تعبئة فراغ.
المذيع ليس مجرّد طارح أسئلة، بل عقلٌ مدرَّب، ولسانٌ ناطق باسم خطّ تحرير القناة؛ له تكتيكاته في إدارة الحوار، وقدرته على محاصرة الضيف بسؤالٍ مباغت، أو توليد أسئلة من وحي إجاباته، أو توريطه في تناقض. لذا، يجب دراسة أرشيف المذيع، وتحليل أسلوبه ونقاط ضغطه. كما أن المذيع ليس خصمًا سياسيًا، بل موظفٌ يؤدّي دورًا مهنيًا يخضع لتحريرٍ وتوجيه وإنتاج. الهجوم عليه أو التشكيك في نواياه يُظهِر المشارك بمظهر المتوتّر أو الضعيف.
كثيرٌ من المذيعين أو الضيوف يلجؤون إلى استفزاز الضيف لإخراجه عن وقاره أو جرّه إلى مهاترة. الردّ هنا يكون بالهدوء وضبط النفس، لا بالمشاحنة. ليس مطلوبًا أن تردَّ على كلّ كلمة، بل أن تختار ما يستحق الردّ، وتُفلت من الفخاخ بلباقةٍ تعكس ثقة لا اضطرابًا. التفاعل الذكي هو ما يوصّل الرسالة ويحفظ الكرامة.
من الضروري أيضًا أن يرفض الضيف عدم التكافؤ في توزيع الوقت أو المقاطعات المتكرّرة. القبول بذلك يفقده زمام المبادرة، ويحوّله إلى مجرَّد مُجيب وليس شريكًا في النقاش؛ ولكن في الوقت نفسه على المشارك أن يحرص على توصيل فكرته بسرعة ووضوح، فزمن الكلام محدود، وعليه ألا يترك المجال للمذيع أو الضيوف الآخرين ليقاطعوه كثيرًا.
من الخطأ أيضًا أن يحصر المشارك خطابه على جمهوره المحلي عندما يظهر في قناةٍ عربية جامعة. التصريحات يجب أن تُصاغ بدقّة، مع وعيٍ بالمتلقّي الإقليمي والعالمي، وتباين الخلفيات الثقافية.
الظهور في الأستوديو لا يتطلَّب التحضير المعرفي فحسب، بل مهارة في التعامل مع الكاميرا، وبرودة أعصاب لا تُكتَسب إلا بالمراس والتكرار. كثيرون لا يدركون أن لغة الجسد، ووضعية الجلوس، وحركة اليدين، ونبرة الصوت، وطريقة التفاعل البصري، كلّها عناصر حاسمة في الأداء الإعلامي. التوتر يُرصَد، والارتباك يُقرأ، والجمود يفسَّر على سبيل الضعف أو الجهل. في الإعلام السياسي المعاصر، تُدرَّس هذه الأمور علميًا ضمن التدريب على (الإتيكيت الإعلامي) والأداء المقنع أمام الجمهور؛ بل إنّ بعض السياسيين في دول، كلبنان ومصر، باتوا يدركون أهميَّة هذا البُعد، ويخضع بعضهم لتدريبٍ خاص على المقابلات.
فهل يكفي أن نُلقِي اللوم على القنوات أو المذيعين، أم أن على السياسي السوداني أن يُعيد تعريف دوره في عصرٍ تُخاض فيه المعارك أحيانًا بالصوت والصورة أكثر ممَّا تُخاض بالبيانات والتصريحات المكتوبة؟
ختامًا، المشاركة الإعلامية ليست تحلية لحياة السياسي أو “المحلّل الإستراتيجي”، وعلى ساستنا ومحلّلينا أن يدركوا أن الظهور الإعلامي ليس مهارة فطرية، بل صنعةٌ تحتاج إلى إتقانٍ وصقل؛ فأنْ تكون سياسيًا أو محلّلاً ناجحًا لا يعني بالضرورة أنك ستنجح في الأداء الإعلامي.
لقد آن أوان إدراج التدريب الإعلامي ضمن مسارات تأهيل القادة السياسيين، وعلى المحلّلين المستقلّين أن يجتهدوا في تحصيله بأنفسهم، وإلا ستظلّ الشاشة مقبرةً لهيبتهم، لا منبرًا لأصواتهم!



