رأي

السودان يقاضي الإمارات أمام محكمة العدل الدولية: لماذا يجب على العالم الاهتمام بهذه القضية 

 

أمجد فريد الطيب

في السادس من مارس 2025، أعلنت محكمة العدل الدولية أن جمهورية السودان قد تقدمت بدعوى قضائية ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، تتهمها فيها بالتواطؤ في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، استنادًا إلى المادة 36(1) من النظام الأساسي للمحكمة، والمادة التاسعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وتستند الدعوى إلى اتهام السودان للإمارات بتقديم دعم مستمر لقوات الدعم السريع، وهي مليشيا عسكرية تقود صراعًا دمويًا على السلطة منذ اندلاع حرب السودان في 15 أبريل 2023. وتستند الدعوى إلى انتهاكات موثقة ارتكبتها هذه القوات، من أبرزها المجزرة التي وقعت بين مايو ويونيو 2023 وراح ضحيتها أكثر من 15 ألف مدني من قبيلة المساليت في دارفور، إضافة إلى تهجير ما يقرب من 500 ألف شخص إلى داخل الأراضي التشادية—في تكرار لمآسي الصراع الدارفوري في أوائل الألفينات، حين نفذت ميليشيات الجنجويد، السلف التنظيمي لقوات الدعم السريع، جرائم مشابهة ذات طابع إثني تحت مظلة نظام عمر البشير الإسلامي.

 

تتهم السودان الإمارات بانتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية عبر تمكين قوات الدعم السريع من ارتكاب أفعال تُصنف كإبادة جماعية، وعلى رأسها مجزرة المساليت. وتستند الدعوى إلى أدلة جنائية موثقة، من ضمنها تقرير مركز راؤول والنبرغ لحقوق الإنسان لعام 2024، وتقرير آخر من هيومان رايتس ووتش بعنوان “المساليت لن يعودوا إلى ديارهم”، وكلاهما يوثق أنماطًا من القتل المنهجي، والعنف الجنسي، والحرق الواسع للقرى في ولاية غرب دارفور، جميعها موجهة ضد مجتمع المساليت، بما يتماشى مع تعريف الإبادة الجماعية الوارد في المادة الثانية من الاتفاقية. كما تظهر صور الأقمار الصناعية التي حللها مختبر البحوث الإنسانية التابع لجامعة ييل دمارًا واسع النطاق طال تجمعات سكانية مدنية. ويعزز تقرير الأمم المتحدة حول المقابر الجماعية المكتشفة بعد هجمات الدعم السريع من مصداقية هذه الأدلة. وتصف شهادات الناجين كيف أن مقاتلي الدعم السريع استهدفوا المساليت تحديدًا بناء على خلفيتهم الإثنية، مرددين عبارات عنصرية أثناء تقتيلهم للمدنيين بما فيهم الأطفال—فيما يُمكن اعتباره دليلاً صريحًا على توافر النية على الابادة الجماعية. وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية، في يناير 2025، تصنيف أفعال الدعم السريع على انها إبادة جماعية، وهو توصيف جاء متأخرًا من إدارة بايدن، إلا أنه يتسق مع الأدلة المتوفرة.

 

دور الإمارات في هذه القضية ليس محل جدل، بل هو حقيقة موثقة بدقة—والوقائع تنطق من تلقاء نفسها. فقد أفاد فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن، والمكلّف بموجب القرار 1591 (2005) الذي يفرض حظر تسليح على إقليم دارفور، في تقريره الصادر في يناير 2024، بوجود “أدلة موثوقة” تثبت تورط الإمارات في تزويد قوات الدعم السريع بالأسلحة، عبر قاعدة لها في منطقة أم جرس في تشاد. وقد أظهرت بيانات تتبع الرحلات الجوية وصور الأقمار الصناعية، التي قام مرصد النزاع—وهو جهة بحثية ممولة من وزارة الخارجية الأميركية—بتحليلها، أن هناك “درجة شبه يقينية” من قيام الإمارات بنقل أسلحة إلى قوات الدعم السريع. كما كشفت وكالة رويترز عن 86 رحلة جوية بين الإمارات وأم جرس في الفترة من أبريل 2023 حتى منتصف عام 2024، كان ثلاثة أرباعها تنفذها شركات طيران سبق ربطها بشبكات تهريب السلاح. وفي تحقيق استقصائي آخر، كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن وجود قاعدة سرية للطائرات المسيّرة تديرها الإمارات داخل مطار أم جرس، على مقربة من الحدود السودانية، وتدعم من خلالها قوات الدعم السريع. وقد وثق التحقيق استخدام طائرات مسيّرة صينية الصنع من طراز “وينغ لونغ”، يجري إطلاقها من مدرج طيران تم تطويره تحت غطاء مشروع إنساني مرتبط بمستشفى للهلال الأحمر الإماراتي. وتظهر بيانات تحليل الصراعات المسلحة أن الميليشيات المدعومة بطائرات مسيرة تتسبب في معدلات خسائر مدنية أعلى بكثير خلال الاشتباكات في المناطق الحضرية. وعلى صعيد آخر، حاول عضوا الكونغرس الأميركي، السيناتور كريس فان هولن والنائبة سارة جاكوبس، في عام 2024، عرقلة صفقة أسلحة بقيمة 1.2 مليار دولار إلى الإمارات، بسبب دعمها للدعم السريع. وفي يناير 2025، أكدا مجددًا، استنادًا إلى إحاطات سرية من إدارة بايدن، أن الإمارات لم تلتزم بتعهداتها بوقف هذا الدعم وهي مستمرة في امداد الدعم السريع بالسلاح والعتاد، وهو خرق أدى، بحسب تقديرات، إلى سقوط أكثر من 10 آلاف قتيل شهريًا.

 

في ظل تصدع منظومة العدالة الدولية، الذي تجلّى مؤخرًا في العقوبات الأميركية المفروضة على المحكمة الجنائية الدولية، تمثل هذه الدعوى اختبارًا حقيقيًا لقدرة القضاء الدولي على محاسبة القوى العالمية النافذة، أو استسلامه لضغوط السياسة وعراقيل الإجراءات.

 

في ديسمبر 2023، رفعت جنوب أفريقيا دعوى ضد إسرائيل أمام المحكمة ذاتها، متهمة إياها بارتكاب إبادة جماعية في غزة، بموجب ذات الاتفاقية. وقد حظيت دعوى جنوب أفريقيا بدعم واضح من عدة دول من الجنوب العالمي، شملت: الجزائر، بنغلاديش، بوليفيا، البرازيل، تشيلي، كوبا، إيرلندا، الأردن، المالديف، المكسيك، ناميبيا، نيكاراغوا، باكستان، سلوفينيا، إسبانيا، وفنزويلا، عبر بيانات قانونية أو دعم دبلوماسي. شكلت تلك اللحظة ذروة تضامن الجنوب العالمي. استندت جنوب أفريقيا في قضيتها ضد اسرائيل إلى إرثها الأخلاقي المناهض للفصل العنصري والاستعمار. بالنسبة للسودان، فبالرغم من افتقاره لمثل هذا الرصيد الرمزي، إلا أن أزمته الراهنة تمثل صورة مركزة للتحديات الكبرى التي تعاني منها دول ما بعد الاستعمار: من تآكل السيادة، إلى تغول الفاعلين الخارجيين وتواطأ النخب السياسية، وتزايد التدخلات الخارجية. الصراع الحالي—بما يتضمنه من معاناة إنسانية هائلة، ونزوح جماعي، وعنف إثني ممنهج، وتدمير مؤسسات الدولة—خلق واحدة من اكبر الأزمات الإنسانية والسياسية في العالم. وهو ليس مجرد نزاع داخلي، بل نتيجة إهمال دولي، وتلاعب إقليمي، واستمرار تهميش إفريقيا في النظام الدولي. تجاهل تقديم الدعم للسودان في هذه اللحظة الفاصلة لا يقوّض فقط دعوى قانونية، بل يهدد مبادئ التضامن الدولي ويعيد إنتاج اختلالات العدالة العالمية، حيث تُسخّر العدالة لخدمة الأقوياء، بينما يتم حجبها عن الضعفاء.

 

دعم هذه الدعوى للعدالة لا يعني الانحياز إلى الحكومة السودانية أو قواتها المسلحة في صراعها مع قوات الدعم السريع، بل ينبغي أن يُبنى هذا الدعم على جوهر القضية ومضمونها الموضوعي. فالإمارات، بما تمتلكه من شبكات نفوذ عابرة للحدود، مدعومة بثقلها المالي النفطي وتحالفاتها الاستراتيجية مع قوى عالمية، سواء كانت غربية أم غير غربية، تجعل من انتهاكاتها أكثر خطورة وتأثيرًا. وإذا تُركت دون مساءلة، فإنها ستستمر في استغلال الصراعات الإقليمية—من السودان إلى ليبيا، ومن اليمن إلى سوريا— وتستمر في تقويض سيادة دول الجنوب العالمي في سعيها وراء الموارد والنفوذ. عجز دول الجنوب عن اتخاذ موقف حاسم تجاه ما يحدث في السودان يخلق فراغًا، سيتم استغلاله من قبل فاعلين دوليين اخرين سعيا وراء القواعد العسكرية، ونهب الموارد، أو تعزيز مواقعهم الجيوسياسية. وفي مثل هذا السياق، يصبح الصمت شكلًا من أشكال التواطؤ، وقد يُستخدم لاحقًا كسلاح لتقويض ما تبقى من إرادة إفريقيا ودول الجنوب العالمي بشكل اوسع في إدارة شؤونها ومصيرها، خاصة في وقت تعود فيه مفاهيم العدالة والتعويض والسيادة إلى واجهة النقاش العالمي.

 

ورغم قوة الحُجج المقدمة في القضية، فإنها ليست خالية من الإشكاليات. فالسجل الحقوقي للحكومة السودانية والقوات المسلحة السودانية (SAF) ليس نقيًا من الشوائب. ووفقًا لبيانات مشروع “ACLED” لرصد النزاعات، فقد ارتكبت القوات المسلحة السودانية 200 حادثة تسببت في خسائر بشرية بين المدنيين خلال عام 2024، مقارنة بـ 1300 حادثة ارتكبتها قوات الدعم السريع في الفترة نفسها. ورغم أن العمليات العسكرية للجيش غالبًا ما يتم تصويرها باعتبارها ردًا على التمرد، فإن ذلك لا يبرّر الإضرار بالمدنيين، ولا يُعفي الجيش من مسؤوليته القانونية والأخلاقية في تقليل الضرر وضبط استخدام القوة.

 

وإلى جانب ذلك، تساهم العوائق البيروقراطية التي تفرضها الحكومة السودانية على دخول المساعدات الإنسانية في مفاقمة الأزمة، في وقت أصبحت المأساة السودانية تُعد فيه أسوأ كارثة إنسانية في التاريخ الحديث. ورغم أن المنظمات الإنسانية الدولية تتحمل كذلك جزءًا من المسؤولية لفشلها في التكيّف مع طبيعة الصراع وتغيير أساليبها الميدانية، فإن القيود التي تفرضها السلطات السودانية تمنحها ذرائع كافية لتبرير هذا التقصير. وبغض النظر عن المبررات، فإن هذه العوائق—حتى وإن لم تكن ترقى إلى مستوى الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع والتي تقوم هي نفسها بعرقلة العون الانساني—تضعف من الموقف الأخلاقي للسودان، وتؤثر سلبًا على صورته في المحافل الدولية.

 

ثمة عائق إجرائي آخر يهدد هذه القضية، يتمثل في التحفظ الذي سجلته الإمارات على المادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية عند توقيعها عليها، وهي المادة التي تُخوّل لمحكمة العدل الدولية اختصاص البت في النزاعات المتعلقة بتفسير أو تطبيق أحكام الاتفاقية. وقد أثار هذا التحفظ الكثير من الجدل في الأوساط القانونية، حيث يرى عدد من الفقهاء القانونيين أن مثل هذه التحفظات تتناقض مع روح الاتفاقية، وتمنح الدول المتهمة بالإبادة حصانة غير مبررة، مما يقوّض الغاية الأساسية للمعاهدة.

 

وقد عبّر القاضي عبدو كورما، الذي شغل مقعد قاضي في محكمة العدل الدولية بين عامي 1994 و2012، عن حكمه في هذا الشأن بوضوح، إذ اعتبر أن مثل هذه التحفظات تتعارض مع الغاية والهدف من الاتفاقية، ووصفها بأنها “مواقف سياسية لا تُنتج أثرًا قانونيًا.” وذهب الفقيه القانوني بيام أخافان (استاذ القانون الدولي في جامعة ماكغيل الكندية) إلى نتيجة مشابهة في تحليله لسوابق المحكمة، مثل قضية “كرواتيا ضد صربيا”، مشددًا على أن التحفظات على المادة التاسعة تُضعف فاعلية الاتفاقية وتجعلها غير قابلة للتنفيذ. بل إن محكمة العدل الدولية نفسها كانت قد أصدرت رأيًا استشاريًا في عام 1951، أكدت فيه أن التحفظات على الاتفاقيات متعددة الأطراف لا تُقبل إلا إذا لم تتعارض مع موضوعها وغرضها الأساسي، وهو في حالة هذه الاتفاقية: منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

 

ومع ذلك، فإن سوابق محكمة العدل الدولية لا تسير في هذا الاتجاه. ففي قضية “الأنشطة المسلحة” لعام 2006، بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، قبلت المحكمة تحفظ رواندا على المادة التاسعة وقررت عدم اختصاصها بالنظر في الدعوى. وكذلك فعلت في سلسلة قضايا “مشروعية استخدام القوة” التي رفعتها يوغوسلافيا ضد الولايات المتحدة وإسبانيا في عام 1999، حيث اعتبرت المحكمة أن التحفظات على المادة التاسعة تمنعها من ممارسة اختصاصها.

 

غير أن ما قد يعزز موقف السودان هو ما تتمتع به هذه القضية من قوة أدلة غير مسبوقة، تمتد من تحليلات الطائرات المسيّرة إلى نماذج اقتصادية تربط مباشرة بين حجم المساعدات الإماراتية ومعدلات القتل على يد قوات الدعم السريع. وقد يستطيع السودان أن يجادل بأن أفعال الإمارات، في هذه الحالة، تجعل من تحفظها غير متوافق مع الهدف الأساسي للاتفاقية، وهو منع الإبادة الجماعية. وهذه حجة لم تُختبر قضائيًا منذ عام 1951، لكنها تبدو ملائمة جدًا في ظل بشاعة هذا النزاع. إلا أن الوزن المالي والدبلوماسي للإمارات ونفوذها العالمي، لا سيما في ظل اقتصادها الذي يبلغ حجمه 500 مليار دولار مقارنة بـ 34 مليارًا فقط للسودان، يجعل هذه المعركة غير متكافئة بشكل صارخ. والسؤال المطروح الآن: إلى متى يمكن للسودان لوحده أن يصمد في مواجهة خصم بهذا الحجم؟

 

إن سجل الإمارات في التدخلات الإقليمية—من سوريا إلى اليمن إلى ليبيا—حيث سلّحت مجموعات مسؤولة عن مقتل أكثر من 300 ألف شخص، يكشف عن مستوى خطير من الإفلات من العقاب، ويزيد من اهمية هذه الدعوى.

 

فما على المحك في هذه القضية ليس فقط مصير السودان، بل مستقبل العدالة الدولية ذاتها. إذ تمثل هذه الدعوى أول مواجهة قانونية رسمية للإمارات بشأن دورها في زعزعة الاستقرار الإقليمي، وتدخلاتها الأجنبية، وسلوكها التخريبي. وإذا كُتب لهذه الدعوى النجاح، فإنها قد تُعيد بعضًا من المصداقية لمحكمة العدل الدولية واجهزة العدالة الدولية ككل. ولكن هذا يتطلب دعمًا دوليًا صادقًا، بنفس الزخم الأخلاقي والسياسي الذي حفّ بقضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل. وإذا لم تتحول الأنظار اليوم نحو الخرطوم ودارفور وغيرها من مناطق السودان، فإننا نرسّخ بذلك نظامًا عالميًا تكون فيه الثروة والقوة فوق القانون، وتُترك فيه ضحايا السودان كضحايا ثانويين في لعبة جيوسياسية لا تعبأ بالأكفان ولا بالمقابر الجماعية. إن صدق اتهامات السودان، وحجم الفظائع، يفرضان أكثر من مجرد إغلاق الملف لأسباب إجرائية؛ إنهما يتطلبان حكمًا تُلاقي فيه العدالة الحقيقة، أمام 15 ألف قبر بلا شاهد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى