د. محمد حسب الرسول
صاحب تلك الفوضى وذلك الطغيان والاستبداد والديكتاتورية عجز كامل عن إدارة الدولة، كما صاحبتها منازعات داخلية بين التحالف المدني الحاكم. وقد أدت تلك النزاعات والصراعات إلى انقسام تحالف الحرية والتغيير إلى فصيلين، ثم إلى ثلاثة فصائل، تبقى أضعفها في السلطة، فدخل في صراع مع شركائه العسكريين، ودخل في صراع مع شركائه في السطة ممن وقع معهم اتفاقية جوبا للسلام، وتوسعت جداً المسافة بينه وبين المجتمع ممثلاً في مكوناته الاجتماعية، فدخلت السلطة الانتقالية في حالة شلل تام وأزمة مركبة ومتعددة الأوجه، فانتفض المجتمع بمكوناته الاجتماعية والجهوية والسياسية على هذه السلطة، واستجاب الجيش للمجتمع في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، ففض شراكته مع الفصيل الأصغر من تحالف الحرية والتغيير المسمى بالمجلس المركزي.
وبسبب التدخلات الخارجية الكبيرة ممثلة في ما عرف بالآلية الثلاثية المشكلة من البعثة الأممية بقيادة الألماني فولكر، وممثلية الاتحاد الأفريقي، وممثلية منظمة الإيغاد (منظمة تجمع دول القرن الأفريقي تعنى بمكافحة التصحر)، وتدخل الآلية الرباعية التي ضمت سفراء بريطانيا وأميركا والإمارات والسعودية ومنعت الآليتين مجلس السيادة من تشكيل حكومة بديلة تدير المرحلة الانتقالية، كما منعته من اللجوء إلى خيار إجراء انتخابات عامة في البلاد تعيد السلطة إلى الشعب وتحقق التحول الديمقراطي المطلوب.
بعد مدافعات من كل الأطراف، حاول الخارج عبر الآلية الرباعية والآلية الثلاثية استعادة السلطة من جديد وإعادة المدنيين المتعاونين مع الخارج إلى السلطة وتمكينهم منها. وقد طرحت الآلية وثيقة اتفاق سياسي جديد، ودستور انتقالي جديد أعدته منظمة PILPG وكانت بمثابة بيت الخبرة الذي رعا مشروع الدستور الانتقالي، وبدأت حينها مرحلة جديدة عرفت داخلياً (العملية السياسية النهائية) وتمكن المشروع الخارجي فيها من الإمساك بكل مفاصل السلطة، وتمكنه كذلك من استكمال تفكيك بقية مؤسسات الدولة، وبشكل خاص السلطة القضائية التي عرفت عبر تاريخ السودان باستقلالها وحيادها وكفاءتها المهنية. وفي المقابل تفكيك بقية المؤسسات المدنية والمؤسسات العسكرية والأمنية وتشكيل مؤسسات بديلة من منسوبي المجلس المركزي وممن يوالون الغرب ويشاركونه أفكاره. ولقد كان لغالب منظمات المجتمع المدني المتصلة بمصادر التمويل الخارجي دوراً كبيراً في تلك العملية السياسية بجانب الدور الرئيس الذي تقوم به البعثة الأممية والتمثيل الصوري للاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد.
تجدد في الدستور الانتقالي المقترح حذف اللغة العربية مرة أخرى، في تأكيد على إصرار الخارج وشركائه المحليين في تحالف الحرية والتغيير على موقفهم من هوية السودان وضرورة تغيير تلك الهوية، ومن ثم تغيير توجهاته وسياساته ومنظومته الثقافية والحضارية والقيمية.
وبرز في الدستور الانتقالي أمر بالغ الخطورة يتمثل في تعزيز مكانة قوات الدعم السريع التي تمتع بها من خلال نصوص الدستور الانتقالي لعام 2019، إذ نص الدستور المقترح على بقاء هذه القوات منفصلة عن الجيش الوطني وتحت رعاية المدنيين، على أن يكون قائدها الرجل الثاني في المؤسسة العسكرية. وقد برز هنا استقلال الدعم السريع وخضوع الجيش لقائد الدعم السريع، لكونه سيكون الرجل الثاني في هذه المؤسسة، على أن يستمر هذا الوضع لمدة 10 سنوات ينظر بعدها في توحيد المنظومتين في منظومة واحدة تكون منظومة الدعم السريع هي نواتها وليس الجيش!
تحت ضغط الآلية الرباعية (بريطانيا وأميركا والإمارات والسعودية)، وقع قائدا الجيش والدعم السريع وتحالف الحرية والتغيير المجلس المركزي على اتفاق إطاري يتضمن ما سبق ذكره، فأثار ذلك غضب المجتمع وحفيظة المؤسسة العسكرية التي يهددها هذا الاتفاق بالحل والفناء الذي يترتب عليه ضياع وتفكك الدولة السودانية ووجودها، فهدد تحالف الحرية والتغيير، على لسان كل قادته ورموزه الجيش والمجتمع، بشن الحرب في حال عدم المضي في تنفيذ الاتفاق!
الحرب كخطة بديلة للهيمنة الغربية على السودان بعدما أفشل المجتمع ومؤسسة الجيش خطط الغرب للسيطرة على السودان بالوسائل السياسية والدستورية، لجأ الغرب إلى الحرب كخطة بديلة ظل يعد لها ويوفر لها عوامل النجاح خلال سنوات الانتقال الأربعة الماضية، فخلال تلك الفترة، تمت زيادة عدد قوات الدعم السريع من 17 ألف جندي إلى أكثر من 120 ألف جندي، وتم رفع قدراتها القتالية عبر التدريب الذي وفرته دول وشركات أجنبية، وعبر تطوير تسليحها الذي تطور تطوراً كبيراً من خلال رعاية إقليمية عربية وصهيونية.
صاحَب هذا التطور الكمي والنوعي في قوات الدعم السريع انتشار لها في كل أرجاء السودان تقريباً، إذ أصبح لهذه القوات قيادة عسكرية في كل ولاية من ولايات السودان، تتمتع باستقلال كامل عن قيادة المناطق العسكرية للجيش في الولايات.
وقد تركزت غالبية هذه القوات في العاصمة الخرطوم التي تأسس لها فيها وجود عسكري ضارب حولها وفي داخلها وداخل كل مؤسسات الدولة، بما في ذلك القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش ومجلس الوزراء والمطار والكثير من الوزارات، فضلاً عن تمركزها في مناطق حاكمة في مداخل مدن ولاية الخرطوم.
تشير تقديرات عسكريين مطلعين إلى أن دولة عربية أنفقت ما بين 18 إلى 20 مليار دولار لتأهيل هذه القوات وتطوير تسليحها، وتطوير نظم القيادة والاتصال ونظم التجسس، وتوفير المهام، وتحسين شروط العمل فيها، وترحيل الملايين من أعراب الساحل الأفريقي للاستيطان في السودان ليحقق استيطانهم أهدافاً كثيرة، من بينها توفير حاضنة اجتماعية للدعم السريع وتوفير مصدر لإمدادها بالمقاتلين من داخل السودان. وبفضل هذا العمل، أضحت هذه القوات قادرة على استقطاب سودانيين وأفارقة وبعض الأوروبيين للعمل في صفوفها، وهذا ما تبيّن بجلاء خلال هذه الحرب.
لكل ذلك، لم تكن هذه الحرب حرباً عبثية، كما يدعي قادة تحالف الحرية والتغيير وقائد الجيش السوداني، إذ يشير كثير من المعطيات والوقائع إلى أن هذه الحرب جاءت بعد إعداد طويل لقوات الدعم السريع التي تطورت قوتها العسكرية والاقتصادية كماً وكيفاً خلال أعوام الانتقال الأربعة التي تلت سقوط نظام البشير، حتى تمكنت من تحويل تهديد ظهيرها السياسي، تحالف الحرية والتغيير، إلى واقع ملموس يدفع السودان والسودانيون ثمنه غالياً مع كل دم يراق، وروح تزهق، ومواطن يهجر، وعرض ينتهك، ومال ينهب، وبنية تحتية تدمر.
لقد شنت قوات الدعم السريع انقلابها في 15 نيسان/أبريل الماضي بعدما تأخر تنفيذها 5 مرات، إذ كان مقرراً شنها في يوم 11/4/2021، ثم تأجل التنفيذ إلى يوم 17/4/2021، ثم تأجل إلى 30/6/2021، ثم تأجل إلى آذار/مارس 2023 ، ثم إلى 11 نيسان/أبريل 2023، قبل أن يتم التنفيذ بعد 4 أيام من الموعد الأخير، علماً بأن مؤسسة الجيش كانت على علم بكل تلك التواريخ، وكانت تفشل التنفيذ بوسائل مختلفة، وأن قيادة المؤسسة تجنبت طوال هذه المدة استخدام القوة في منع حدوث الانقلاب، وكانت ترى أن من الأسلم أن تبدأ قوات الدعم السريع بإطلاق الطلقة الأولى لتكون للجيش الطلقة والكلمة الأخيرة.