السودان لا يخوض حربًا بين طرفين متكافئين: إنها دولة تدافع عن نفسها ضد ميليشيا

السفير د. محمد عثمان عكاشة
لماذا يُعَدّ وصف حرب السودان بأنها بين “طرفين متساويين” تشويهاً أخلاقياً وواقعياً
لا يزال خطاب خطير يتردّد في النقاشات الدولية يقول إن الحرب المدمرة في السودان هي حرب بين “طرفين متكافئين”. هذا الطرح، الذي تردده بعض الدوائر الدولية والإقليمية وعدد من وسائل الإعلام، ليس فقط زائفًا، بل هو جائر بعمق. إنه يطمس الخط الفاصل أخلاقيًا وقانونيًا بين جيش وطني يدافع عن الدولة والشعب، وبين ميليشيا تمارس الإرهاب ضدهم.
لفهم حرب السودان، لا بد من تجاوز الشعارات إلى منطق الحقائق وشهادات الملايين من المدنيين السودانيين.
1. الشرعية لا يمكن أن تكون مشتركة بين دولة وميليشيا
القوات المسلحة السودانية هي مؤسسة دستورية معترف بها في القانون الدولي، ومهمتها حماية سيادة السودان ووحدته.
أما ميليشيا الدعم السريع، فهي ليست قوة وطنية شرعية، وإنما الواجهة المعاد تسميتها لميليشيا الجنجويد، وهي مجموعة تفوقية عُرِفت بارتكابها الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم واسعة في دارفور منذ عام 2003.
ووفق لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق حول دارفور (2005)، فإن الجنجويد مسؤولون عن جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتكبت بحق المجتمعات غير العربية. وقد أعيد تنظيم هذه المجموعات وإطلاق اسم “الدعم السريع” عليها بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، مع الإبقاء على بنيتها القيادية وأساليبها العنيفة وطبيعتها الإجرامية نفسها
لسنوات، ظل المجتمع الدولي يدين الجنجويد بسبب القتل الجماعي والاغتصاب وحرق القرى والتهجير القسري. واليوم، يخاطر كثير من هؤلاء الفاعلين الدوليين أنفسهم بارتكاب “فقدان للذاكرة الأخلاقية” حين يساوون هذه الميليشيا الإجرامية بالجيش الوطني السوداني.
2. المدنيون يعرفون من يحميهم
المعيار الأصدق للشرعية هو حركة المدنيين. ففي مختلف أنحاء السودان، فرّت الملايين من المناطق التي تسيطر عليها ميليشيا الدعم السريع، متجهة إلى مناطق الجيش أو الدول المجاورة طلبًا للأمن.
وبحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، نزح أكثر من تسعة ملايين شخص منذ بداية الحرب، معظمهم هربًا من العنف والنهب والاغتصاب الذي ارتكبته ميليشيا الدعم السريع في دارفور والجزيرة وسنار والخرطوم.
لو كان الطرفان متكافئين، لانقسمت حركة السكان. لكن الواقع مختلف: المدنيون يصوتون بأقدامهم، فيفرّون من الميليشيا ويلجأون إلى حماية الجيش.
3. جرائم الدعم السريع المثبتة
سجل ميليشيا الدعم السريع هو سجل وحشية منظمة، لا شرعية سياسية. فقد وثّق مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عمليات قتل جماعي وتعذيب وعنف جنسي ارتكبها أفراد الميليشيا في دارفور، محذرًا من أن هذه الانتهاكات ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية.
كما سجّلت منظمة “هيومن رايتس ووتش” مجازر عرقية في الجنينة، حيث ذبحت الميليشيا وحلفاؤها من المدنيين غير العرب وأحرقت أحياء كاملة.
وأكّدت منظمة العفو الدولية انتشار الاغتصاب والخطف والاختفاء القسري كسلاح حرب بيد هذه الميليشيا. في الوقت نفسه، تتبّع فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة تدفق الأسلحة الأجنبية والأموال غير المشروعة التي تغذي عملياتها، في خرق للعقوبات الدولية وإطالة لمعاناة السودان.
هذه ليست أفعال حركة تسعى للعدالة أو الإصلاح، بل جرائم ميليشيا مرتزقة مدفوعة بالطمع والهيمنة القبلية ورعاية أجنبية.
4. دور الجيش الوطني دفاعي لا هجومي
الحرب لم تبدأ مع القوات المسلحة السودانية. بل بدأت عندما شنّت ميليشيا الدعم السريع هجومًا منسقًا على مؤسسات الدولة، فنهبت الممتلكات العامة، واستولت على المطارات، واحتلت المنازل في الخرطوم.
وبحسب تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن (S/2023/700)، فقد بدأت الميليشيا القتال في 15 أبريل 2023، بمهاجمة المواقع العسكرية والأحياء المدنية معًا.
وبموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، لكل دولة ذات سيادة الحق والواجب في الدفاع عن نفسها ضد التمرد الداخلي. والسودان ليس استثناءً. إن إدانة الجيش الوطني لأنه يدافع عن الدولة تعني إنكار حق السودان في الوجود كدولة.
5. خطورة الحياد الزائف
باسم “الحياد”، ما زالت بعض الأصوات الدولية تتحدث عن “الجانبين”. لكن الحياد الزائف ليس عدلاً، بل تواطؤ. مساواة القوات المسلحة السودانية بميليشيا متهمة بالإبادة وجرائم ضد الإنسانية أمر غير مقبول أخلاقيًا وخطير استراتيجيًا.
هذا التوازن المضلل يكافئ الجناة ويعاقب الضحايا. السلام لا يُبنى على الوهم، بل على الاعتراف بمن يدافع عن الوطن ومن يدمره.
الحقيقة قبل السلام
حرب السودان ليست صراعًا بين أنداد. إنها دولة تتعرض لهجوم من ميليشيا إبادة أعيدت تسميتها. القوات المسلحة السودانية تمثل استمرارية الدولة والعلم والإرادة الجماعية للشعب في الدفاع عن وطنهم. أما ميليشيا الدعم السريع فتمثل الفوضى والتدخل الأجنبي والمعاناة الجماعية.
توصيفهما كـ”طرفين متكافئين” ليس دبلوماسية، بل إنكار. يجب أن تأتي الحقيقة قبل السلام، لأن سلامًا بلا حقيقة يكرّس الظلم. السودان لا يحارب نفسه، بل يقاتل من أجل بقائه.



