بقلم: عبدالعزيز يعقوب
في مدينةٍ وولاية اشتهرت لعقود بصناعة السيارات، وارتبطت أزقتها بأزيز المحركات ورائحة الزيت، تبدّل المشهد فجأة. برايتون، بولاية ميشيغان، لم تعد مدينة أمريكية عابرة في تلك الأيام، بل تحولت إلى مسرح سودانيٍّ بامتياز. أصوات الهتافات كانت تعلو فوق كل ضجيج، وأهازيج الدلوكة ترددت في الهواء، والزغاريد اخترقت جدران الغربة حتى بدت السماء وكأنها تستعيد شيئًا من دفء الوطن. الأعلام السودانية رفرفت عالية، ليس كأقمشة ملوّنة وحسب، بل كرموز لوجودٍ ممتد، وصوت يقول “نحن هنا،نحن السودان والوطن معنا حيثما حللنا.”
لم يكن ذلك المشهد وليد لحظة عابرة. السودانيون جاؤوا من أكثر من ثماني عشرة ولاية أمريكية، بعضهم قطع مئات الأميال بالسيارة، وآخرون جاؤوا بالطائرات، يحملون في قلوبهم ما هو أثقل من الحقائب، الحنين. الحنين الذي لا يشيخ، والذي يجرّ صاحبه كلما سنحت فرصة إلى دائرة اللقاء. فهؤلاء لم يغادروا وطنهم قسرًا؛ فيهم من خرج طلبًا للعلم، وفيهم من ابتغى حياة كريمة، وفيهم من جرفته الغربة منذ عقود. لكن حين تلاقوا، كان المشهد أصدق من كل المبررات إنهم أبناء وطن واحد، كلهم انصهروا في خيط واحد كالعقد المنظوم دم واحد، حب واحد، وطن واحد ووفاء واحد وكأن المسافات لم تفصلهم يومًا.
مهرجان “ساسف” الذي أطلقه الاتحاد الأمريكي السوداني لكرة القدم عام 2002 من فلادلفيا، لم يعد حدثًا رياضيًا فحسب، بل صار موعدًا سنويًا مع الذاكرة، أشبه بعيدٍ خفيٍّ لا تحده تواريخ رسمية. كل عام ينتظر السودانيون هذا الملتقى كما ينتظرون مواسم الأعياد، لأنه لا يجمعهم في الملعب فقط، بل يعيد لهم لحظة نادرة من الإحساس بالوطن الجماعي. في برايتون، هذا العام، بدا الأمر أكثر من مجرد بطولة وكانه لقاء العشق مع الوطن، او كأنه إعلان حياة ضد النسيان.
امتلأت فنادق المدينة بالوجوه السودانية، وتحوّلت المطارات إلى محطات لقاء عاطفي، يبتسم فيها القادمون لأبناء جلدتهم قبل أن يتعرّفوا عليهم. جاءوا من أوهايو ونبراسكا وكاليفورنيا ونيويورك وفيرجينيا وكولورادو ماساتشوستس وانديانا وبنسلفانيا وغيرها. كل ولاية حملت معها نكهة خاصة، لكن جميعها انصهرت في بوتقة واحدة. بدا وكأن القارة الأمريكية بأسرها قد افسحت المجال لقرية سودانية كبرى، بكرمها وصخبها وألوانها وروائحها.
وعلى المستطيل الأخضر، تحوّلت كرة القدم من مجرد رياضة إلى مرآة للانتماء. لم تكن الأهداف أرقامًا تُسجّل، بل لحظات يدوّنها الوجدان. فلادلفيا توّجت بالبطولة بعد أداء لامع، وبوسطن، الحصان الأسود، فاجأت الجميع بروح قتالية وانضباط جعلها تفرض احترامها. أسماء مثل أبو الجاز، فارس، عروة، عبدالرحمن، طاهر، قصي، وعمرو، أضاءت الملعب بإبداعها، فيما تصدّر موسى قائمة الهدافين بتسعة أهداف متقنة. لم يكن موسى مجرّد لاعب، بل صار رمزًا لروح الموهبة السودانية في المهجر، شاهدًا على أن أبناء السودان قادرون على المنافسة والاحتراف متى ما توفرت الفرص.
لكن الملعب لم يكن كل الحكاية. على جنباته كانت الحكاية الأخرى الغناء، الرقص، الدلوكة، الطار، والراب الأمريكي الذي وجد مكانه جنبًا إلى جنب مع أغنيات الحقيبة. الأطفال رقصوا على إيقاعات التراث، والشباب تمايلوا مع الأغنيات الحديثة، والنساء زغردن كأنهن في حارات الخرطوم أو قُرى دارفور. في تلك اللحظات وُلدت ثقافة هجينة، تحمل روح السودان بطبقاتها المتنوعة، وتتكيف مع فضاء الغربة الواسع. مشهد جعل الحنين يبدو أقوى من الخرائط، قادرًا على اختراع وطن بديل ولو لبرهة قصيرة.
ومع أن السودان في الداخل يعيش جراح الحرب والانقسام والنزوح، كان هذا المهرجان فعل مقاومة بالفرح. كان إعلانًا أن الجرح لا يميت الروح، وأن الانكسار لا يلغي الأمل. فإقامة فعالية بهذا الحجم في قلب أمريكا لم تكن ترفًا، بل رسالة للعالم، السودان باقٍ في قلوب أبنائه، حاضر في أهازيجهم، متجدد في أغنياتهم، ومتماسك بفضل قدرتهم على الفرح الجماعي رغم الألم.
برايتون في تلك الأيام لم تعد مدينة أمريكية عادية، بل تحولت إلى وطن مصغّر. في شوارعها ومطاعمها وملاعبها، كان المشهد سودانيًا خالصًا. ضحكات بلهجات دارفور، مزاح بالنوبية، أحاديث بلكنات الشمال والشرق والوسط، كلها ذابت في نسيج واحد. كان الوطن حاضرًا، يمشي على قدمين، يغني في المهجر، ويرفع راياته رغم الجراح.
ولم يكن ذلك ليتحقق لولا أيادٍ كثيرة حملت العبء. التحية تذهب إلى قيادة الاتحاد الأمريكي السوداني لكرة القدم، في شخص رئيس الدورة الأخ خالد موسى “أوهايو”، وإلى من أسّسوا هذا التقليد منذ البدايات. التحية أيضًا إلى القيادات الشابة التي تولت الإشراف على الفرق، وإلى المدربين الذين صقلوا المواهب بالعلم والانضباط، كالأخ مُجدد من بوسطن، وشاع الدين و”مويد ومانو والباشا” من فلادلفيا. والتحية الأجزل للنساء من كل الجاليات اللواتي نسجن بخيوط صبرهن مائدة الفرح، فأعددن الطعام، وزيّنّ الساحات، ووهبن أبناءهن للحدث ليكونوا جزءًا من الحلم والأمنيات. ولا ننسى البراعم الذين حملوا الكرات وركضوا في الممرات ببراءة صاخبة، كأنهم يعلنون أن الحكاية لم تنتهِ، بل ما زالت تتواصل جيلًا بعد جيل.
لقد أثبت هذا المهرجان أن الوطن ليس خريطة على ورق ولا حدودًا مرسومة، بل هو روح حيّة، تنبض في الأغنيات، وتسطع في دموع الفرح، وتتمايل في زغاريد النساء. الوطن قد يبتعد جغرافيًا، لكنه لا يبتعد وجدانيًا. في برايتون، كتب السودانيون فصلًا جديدًا من حكايتهم السودان حيّ، مهما كانت المحن، ومهما طالت المسافات
