تقارير

السودان في قلب العاصفة الدولية — قراءة في موقف لواندا

عندما اجتمع قادة إفريقيا وأوروبا في لواندا يومي 24 و25 نوفمبر 2025، لم يكن السودان مجرد بند عابر على جدول الأعمال. كان حضوره في النص الختامي للقمة شبيهاً بجرس إنذار، يقرع بقوة داخل قاعة مزدحمة بالرؤساء ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية. ولعل أكثر ما لفت الأنظار هو أن الأزمة السودانية—التي طغت عليها في الأشهر الماضية أصداء الفاشر ودماء المدنيين—حظيت بفقرة صريحة وغير مسبوقة في حدتها، وضعت الحرب في السودان ضمن أخطر بؤر الصراع العالمي.
لم تكتفِ الوثيقة المشتركة بالإشارة إلى السودان عرضًا، بل توقف القادة عنده بعبارة مكثفة عكست عمق الصدمة الدولية مما يجري:
“نعرب عن قلق عميق بشأن الوضع في السودان… وندين الفظائع التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في الفاشر بعد الاستيلاء الأخير على المدينة.”
كان ذكر الفاشر بالاسم مفاجئاً للكثيرين. فالبيانات الدولية عادةً ما تتجنب تفصيل مواقع الجرائم، مكتفية بعبارات عامة. لكن قادة إفريقيا وأوروبا اختاروا أن تكون المدينة—التي تحولت في الأسابيع الماضية إلى رمز للعنف المتفجر في دارفور—نقطة الارتكاز في خطابهم.
وهكذا تحولت الفاشر من مدينة مظلمة في أقصى غرب البلاد إلى عنوان سياسي يجري تداوله في القاعات الدبلوماسية الكبرى.
في أروقة القمة، كان واضحاً أن الموقف لم يأتِ من فراغ. تقارير الأمم المتحدة، وصور الأقمار الصناعية، وشهادات المنظمات الإنسانية، كلّها أسقطت آخر أقنعة الشك. بدا المجتمع الدولي وكأنه وصل إلى لحظة حاسمة: مرحلة تسمية الفاعل وتحديد المسؤوليات.
لأول مرة، يتبنى بيان مشترك لأكبر كتلتين سياسيتين في إفريقيا وأوروبا وصفاً قانونياً ثقيلاً: “الفظائع”، وهي كلمة لا تُستخدم إلا عندما يصبح الحديث عن جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية أمراً لا يمكن تجاهله.
لكن البيان لم يقف عند الإدانة. فبالقدر نفسه من الوضوح، أعاد التأكيد على أن الحل يجب أن يبدأ من الداخل، تحت مظلة إفريقية خالصة:
“عملية سياسية يقودها السودانيون برعاية الاتحاد الإفريقي والإيقاد.”
بهذه العبارة، أغلق البيان الباب أمام كل المبادرات الجانبية ومسارات “الهندسة السياسية” التي حاولت بعض الأطراف الإقليمية والدولية فرضها خلال العامين الماضيين. بدا وكأن لواندا تقول بوضوح: لا مسار خارج إفريقيا، ولا شرعية إلا عبر مؤسساتها.
وفي المقابل، لم يغفل البيان البعد الإنساني، وهو الأكثر إلحاحاً اليوم في السودان، خاصة بعد سقوط الفاشر. دعا الاتحادان إلى وقف فوري للأعمال العدائية وضمان وصول المساعدات دون عوائق.
وفي هذا السياق، كان إدراج السودان ضمن قائمة الأزمات الكبرى إلى جانب فلسطين وأوكرانيا والكونغو رسالة سياسية واضحة: ما يجري في السودان لم يعد أزمة إقليمية، بل أصبح جزءاً من بنية التوتر العالمي.
إلى جانب ذلك، برزت نقطة قد تبدو تقنية في ظاهرها، لكنها تحظى بأهمية استراتيجية:
إشارة البيان إلى المركز القاري التشغيلي لمكافحة الهجرة غير النظامية في السودان.
فحتى وسط الدمار، لا تزال أوروبا تنظر إلى السودان باعتباره دولة محورية في إدارة أمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي. هذه الإشارة الصغيرة تحمل معنى كبيراً:
رغبة أوروبية قوية في تجنب انهيار مؤسسات الدولة السودانية بالكامل.
أصداء القمة تجاوزت لواندا. ففي الخرطوم وبورتسودان وعواصم المهجر السوداني، قرأ كثيرون البيان باعتباره بداية تشكل موقف دولي جديد—أكثر وضوحاً، وأقل تردداً. كما وجد فيه آخرون بداية نهاية “المناطق الرمادية” التي أحاطت بمواقف العواصم الأوروبية والإفريقية تجاه الدعم السريع.
فالإدانة هذه المرة ليست صادرة من مكتب صحفي ولا من مسؤول منفرد، بل من تحالفين يمثلان 82 دولة ويشكّلان أكبر مجالين جغرافيين وسياسيين في العالم القديم.
الرسالة النهائية كانت واضحة:
السودان لم يعد منسياً، ولم يعد ممكناً السكوت عما يجري فيه.
والعالم، عبر لواندا، يعلن أنه يرى—ويسجل—ويتجه نحو مرحلة جديدة: مرحلة إعادة بناء قواعد اللعبة السياسية، ووضع مرتكبي الجرائم في خانة المساءلة، ودفع الأطراف نحو مسار سياسي يحاول إنقاذ ما تبقّى من دولة أنهكتها الحرب.
في أجواء القمة، بدا المشهد مزيجاً من الحزم والتردد، من الاعتراف المتأخر ومحاولة اللحاق بالأحداث، لكن بين السطور كان هناك شيء واحد ثابت:
السودان أصبح قضية دولية من جديد، والفاشر كانت نقطة التحول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى