السودان في الإبداع الثقافي التونسي

بقلم: محمد يوسف العركي
حين تتقاطع الذاكرة الثقافية بين ضفاف المتوسط ونيل السودان، تنبثق صورٌ من الإبداع المشترك، وتُروى حكاياتٌ تتجاوز الجغرافيا.
أرسل لي صديقي التونسي خبرًا مفاده فوز الفيلم التونسي “سودان يا غالي” بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان بغداد السينمائي 2025، وهو من إخراج المخرجة التونسية هند المدب.
هذا الخبر دفعني إلى التأمل في العلاقات الثقافية بين البلدين، والتي تلتقي في سياقات متعددة، تعود إلى فترات زمنية ليست بالقريبة.
وبنظرة تاريخية اجتماعية للعلاقات السودانية التونسية، يبرز أولًا الأثر الصوفي، لا سيما الطريقة الشاذلية المنسوبة للشيخ أبي الحسن الشاذلي، الذي كانت تونس نقطة توهجه في الفقه والعلوم العرفانية. وقد انتشرت الطريقة الشاذلية في معظم مناطق السودان، ولا تزال حاضرة حتى اليوم.
ومن زاوية أخرى، تأثر بعض العلماء السودانيين في فترات سابقة بـالمدرسة الزيتونية، وصولًا إلى عهد المفكر التونسي محمد الطاهر بن عاشور في القرن العشرين. وحتى على المستوى السياسي، نجد تقاربًا بين الحركات الإسلامية في تونس والسودان في فترة من الفترات السابقة، فضلًا عن القيم الكبرى المشتركة التي تجمع بين الشعبين، مثل الكرم والنخوة وحب العلم.
وفي سياق الشعر، تبرز المقاربة المهمة بين الشاعرين التجاني يوسف بشير وأبي القاسم الشابي، حيث وُلدا في فترة زمنية متقاربة، وتُوفيا في سن الخامسة والعشرين. وقد مثّل شعرهما مدرسة تجديدية خرجت من القالب التقليدي نحو رؤية كونية؛ فالشابي، رغم تأثره بالتراث الشعري، ثار عليه، بينما أعاد التجاني تأويله. وهذا مبحث يستحق مقالة مستقلة.
وقبل أن نغادر محطة أبي القاسم الشابي، نجد أن أثره الثقافي ظل حاضرًا في الوجدان السوداني، من خلال أشعاره عن التحرر والثورة، التي دُرست في المقررات السودانية سابقًا. كما تغنّى بعض الفنانين السودانيين ببعض قصائده الرومانسية، ولعل من أشهرهم الراحل حمد الريح في أغنية الصباح الجديد.
وفي العصر الراهن، تتجلى الصورة المتبادلة بين تونس والسودان في المجال الرياضي، حيث يعرف الشارع الرياضي السوداني الكرة التونسية وأشهر فرقها مثل الترجي والنجم الساحلي والنادي الإفريقي، ولا ننسى المعلقين الرياضيين التونسيين عصام الشوالي ورؤوف خليف الذين يحظون بشعبية واسعة، كما أن الجمهور التونسي يعرف فريقي الهلال والمريخ السودانيين.
وبالعودة إلى جوهر المقال، نجد اهتمامًا ثقافيًا تونسيًا متزايدًا بالشأن السوداني، ولعل أبرز تجلياته رواية “زول الله” للروائي د.نزار شقرون، وبطلها طه السوداني، حيث تطوف الرواية بين الفلسفة والتاريخ والتصوف. وتُعد هذه الرواية التفاتة مهمة من المثقف التونسي نحو السودان، بهويته التاريخية المشتركة التي تجمع بين العروبة والأفريقانية، وحضور المذهب المالكي والتصوف، وهما من مرتكزات التدين في المجتمع التونسي.
ولا ننسى أيضًا فوز الكاتب التونسي المولدي ضو بالمركز الثاني في مجال الرواية ضمن جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي لعام 2022، عن روايته “ثرثرة على ضفة المانش”. مما يؤكد حضور تونس في الجوائز الأدبية السودانية.
ثم تأتي المخرجة هند المدب في فيلمها الوثائقي “سودان يا غالي”، متحدثة عن الثورة السودانية في الفترة من 2019 إلى 2023، عبر شخصيات مثل أشجان، مزمل، رفيدة، وحمزة.
إن مثل هذه الأعمال تُقرّب الصورة الإنسانية للسودان من المجتمع التونسي (والذي هو بالطبع ذو وعي ودراية)، فإن تباعدت المسافة جغرافيًا، فإن دور المثقف هو تجسير هذه المسافات عبر تقديم مثل هذه المشروعات، التي نأمل أن تصل إلى مرحلة العمل الثقافي المشترك عبر الأطر الرسمية والمؤسسات الثقافية المختلفة.



