*الزحف غربًا بين كلفة التقدُّم وحكمة الحفر بالإبرة*

*خالد محمد أحمد*

بعد استعادة الجيش السوداني زمام المبادرة العسكرية في وسط البلاد وتحرير العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة ومواقع إستراتيجية أخرى، لوحِظ أن وتيرة التقدُّم نحو دارفور قد تباطأت تباطؤًا كبيرًا، وأن الجيش اكتفى ولو إلى حين بتوسُّعاتٍ محدودة في كردفان ضمن سياسة الاستنزاف.

من منظورٍ عسكري بحت، قد يُفهَم هذا التريُّث على أنه نتيجة إنهاكٍ بعد معارك طويلة استنزفت القدرات؛ لكن السياق السوداني المعقّد سياسيًا واجتماعيًا يوحي بأن المسألة قد تكون أبعد من ذلك. فهل من الممكن أن يكون هذا التباطؤ خيارًا إستراتيجيًا محسوبًا يستند إلى معطياتٍ وتقديراتٍ أعمق تتجاوز الموازين العسكرية إلى تعقيداتٍ سياسية واجتماعية وأمنية ودولية بالغة الحساسية؟

في تقديري، يبدو أن القيادة العسكرية تفضّل في الوقت الراهن خلخلة الدعم السريع من الداخل على إسقاطه دفعةً واحدة، بحسبان أن سلطته في دارفور ليست وحدةً صلبة ومتماسكة بقدر ما هي أشبه بتحالفٍ هشٍّ من شبكات المصالح والحواضن القبلية والقيادات المحلية المتنافسة، وخاصةً في ظلّ تصاعد مشاعر السخط وسط بعض مكوّنات دارفور من تسلُّط آل دقلو وأنانيتهم. ويبدو أن الجيش يرى أن هذا التحالف قد بدأ في التآكل تدريجيًا مع سقوط مشروعه وتبدُّد حلمه السياسي الكبير المتمثِّل في الاستئثار بحكم السودان من المركز، وأن تكثيف الضغط غير المباشر كفيلٌ بتعميق هذا التآكل دون الحاجة إلى خوض معارك متهوّرة ومكلّفة في جغرافيا ووسطٍ اجتماعي وعِرٍ، بالغ التعقيد، ومتوجِّس بطبعه من كلّ ما هو قادم من المركز.

أيّ اندفاع نحو دارفور، بلا قراءةٍ دقيقة للسياق الدولي، قد يضع الجيش في مواجهة اتهاماتٍ بانتهاكات عرقية، وخاصةً أن الذاكرة الدولية ما زالت مشحونة ومثقلة بصور حرب دارفور في مطلع الألفية. في هذا الإطار، ربما يفضّل الجيش انتهاج مبدأ “الحفر بالإبرة” لتفادي إحياء تلك السرديَّات، وخاصةً أن الولايات المتحدة قد شارفت على لملمة ملفَّات إيران وغزة وسوريا، ومن المتوقَّع أن تتفرَّغ بعد ذلك للتعامل مع قضايا أخرى من بينها السودان.

وربما يكون الجيش مدركًا أنه حتى في حال تحقيق نصرٍ عسكري في دارفور، فإن إرساء الأمن والاستقرار قد لا يكون مضمونًا؛ فالصراع في الإقليم لم ينطفئ منذ أكثر من عقدين، وفرض السيطرة بالقوة دوت خلخلة القناعات في المشروع الدقلوي قد يُنظَر إليه من بعض المجتمعات المحلية على أنه غزو. هذه النظرة قد تعيد إنتاج مركزية مرفوضة في الوعي الدارفوري، وقد تؤدّي إلى ارتدادٍ سلبي على مشروعية الجيش حتى لدى غير المتعاطفين مع الدعم السريع.

ولا يُستَبعد أن يكون لدى الجيش حساباتٌ أخرى، من بينها أنه يفضّل في الوقت الراهن تحويل الموارد نحو المناطق المحرَّرة في الوسط بهدف إعادة الإعمار، وتسريع عودة النازحين، وترميم مؤسسات الدولة. هذا التوجُّه نحو الاستقرار في الوسط من شأنه أن يساعد في تحويل الدعم السريع تدريجيًا إلى مجرَّد تمرُّدٍ معزول في الأطراف، وقوةٍ خارجة عن القانون تحتلُّ جيبًا جغرافيًا، بدلاً من كيانٍ يقف ندًّا للدولة المركزية. يتَّسق هذا الطرح مع منطق تثبيت الحكم وبناء نموذج استقرارٍ قبل التفكير في توسُّعاتٍ جديدة.

تأسيسًا على ما سبق، أميل إلى أن الجيش يُراهن على الصبر الإستراتيجي، وأنه يؤثر في هذه المرحلة أن ينتصر بعقله لا بعضلاته من خلال تفكيك المعسكر المعادي من الداخل، وتقليل الكلفة البشرية والمادية، وإثبات نضجٍ سياسي أمام المجتمع الدولي؛ فالانتصار الحقيقي لا يقتصر على الميدان فحسب، بل على كسب مشروعية سياسية وأخلاقية تُمهّد لتسويةٍ مستدامة تسبقها تفاهماتٌ إقليمية ودولية.

قد تختلف القراءات بشأن دوافع الجيش في التريُّث غربًا، بين من يراها تعبيرًا عن قوة تقديرٍ، ومن يقرأها من باب الضعف العسكري وتهيُّب الضغوط الدولية؛ لكن ما يبدو واضحًا هو أن معركة دارفور بأبعادها العسكرية والعرقية والسياسية تفرض حساباتٍ دقيقة تجاوز فيها الزحف التقليدي منطق الخرائط إلى فنّ الممكن في الجغرافيا السياسية. ويبقى الحُكم في نهاية المطاف للقارئ.

 

Exit mobile version