تقارير

الرعاة.. ضحايا الحرب المنسيون

الأحداث – وكالات

لا ريب أن الضحايا الحقيقيين للحرب هم الذين فقدوا أرواحهم، غير أن هنالك ضحايا منسيين تماما، ومنهم الرعاة.
عندما اندلعت الحرب في منتصف أبريل 2023، كان أحمد عبد الباقي يملك قطيعا من الضأن يضعه بيسر ضمن قائمة الرجال الذين يتمتعون بوجاهة الثراء في بادية كردفان، لكن تداعيات الحرب أحالته إلى شخص فقير، بعد أن نهب قطيعه في عملية سطو مسلح بالقرب من مدينة أم روابة بولاية شمال كردفان.

انتهاكات الحرب:

جرت واقعة السطو في يونيو 2023، وكان اللصوص قد أخذوا معهم الراعي مسافة يومين سيرا على الأقـدام ومن ثم تركـوه، لم يضع الرعاة الذين تجمعوا لنجدة أحمد عبد الباقي الواقعة في قائمة السرقات التي تحدث باستمرار ويعرفون التعامل معها، إنما صنفوها ضمن انتهاكات الحرب. وللحقيقة لم يستخدموا هذا التعبير تحديدا، لكنهم اتفقوا بينهم على أن منفذيها هم المستنفرون ضمن قوات الدعم السريع الذين نهبوا كل ما وقع تحت أيديهـم في المدن والأسواق، وكانوا يستقوون بالتفوق العسكري للدعم السريع ضد الرعاة البسطاء.
يخبر عبد الباقي «أتر»، بأنه واجه خيار تتبع الأثر واحتمال الدخول في معركة غير متكافئة مع الدعم السريع أو التضحية بالقطيع مقابل سلامة الرجال الذين قرروا مناصرته، وقد اختار سلامتهم.
وفي ولاية جنوب كردفان تعرض قطيع من الإبل يتكون من 157 ناقـة، و43 جملا للنهب من قبل مسلحين قتلـوا ثلاثة من الرعاة وأصابوا أربعة آخرين بإصابات متفرقة في يوليو 2023. ومثلما جرى لأحمد، لم يتمكن الرعاة الذين هبوا لاسترداد الإبل من العثور عليها، ويظنون أن النهابين المسلحين لجأوا بها إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحركة الشعبية بجنوب كردفان.
هذا الاعتقاد تدعمه حوادث سابقة جرت لرعاة الإبل الذين يقضون عددا من أشهر العام بولاية جنوب كردفان. ويقول عدد من الرعاة، لهم صلة مباشرة بالقتلى والإبل المنهوبة، إن اللصوص دائما يتجهون نحو مناطق الحركة الشعبية في السابق، كان الرعاة يستعينون بأجهزة الدولة لاسترداد قطعانهم التي يجري السطو عليها بالقوة؛ لكن أهل رعاة الإبل القتلى في تلك الواقعة اكتفوا بمواساة أنفسهم، وعللوا ذلك لـ «أتر» بأن أجهزة الدولة قد تخلت عن جميع مسؤولياتها، وشغلت نفسها بالحرب التي صار الرعاة ضمن ضحاياها المنسيين.
ومع استمرار الحرب، لم يكن رعاة البادية وحدهم من فقـدوا قطعانهم، رغم أنهم أكثر خبرة ومهارة في حمايتها، فقد تضرر أيضا صغار مربي الماشية في المدن والقرى التي امتدت إليها يد الحرب. وفي مدينة ود عشانا، التابعة لمحلية أم روابة بولاية شمال كردفان، التي سيطر عليها الدعم السريع فـي أكتوبر 2023، قبل أن يستردها الجيش في مايو 2024، خسر السكان ما يزيد عن 750 رأسا من الماعز و180 رأسا الضأن و90 رأسا من الأبقار المنتجة للحليب، بحسب إحصائية غير رسمية حصلت عليها «أتر» من الطب البيطري بالمنطقة.

وسيطر الدعم السريع على مدينة أم روابة بولاية شمال كردفان في أغسطس 2023، وظل يتحرك بدوريات إلى الحدود الشرقية مع ولاية النيل الأبيض، لكن في سبتمبر من العام ذاته تقدمت قوة من الجيش تتبع لحامية تندلتي، وارتكزت في ود عشانا الواقعة على عمق حوالي 7 كيلومترات داخل ولاية شمال كردفان. وفي مطلع أكتوبر 2023 هجمت قوة من الدعم السريع على ود عشانا وتراجع الجيش إلى الحامية في تندلتي. في نهاية مايو، تقدم الجيش إلى ود عشانا مرة أخرى واستقرت بها قوة كبيرة بمثابة ارتكاز متقدم لحامية تندلتي. بعد عودة الجيش إلى ود عشانا باتت منطقة شرق ولاية كردفان سجالا بين الطرفين، فالجيش يسيطر على ود عشانا ويتحرك في حالات نادرة حذرا في القرى المجاورة، ويسيطر الدعم السريع على أم روابة ويتحرك بالحذر نفسه في القرى. وفي الحالتين لا تخضع المناطق خارج أم روابة لسيطرة أي من الطرفين، فكلاهما يتحرك فيها في حالات نادرة وبحذر شديد.

سرقات مدخرات:

وقال عدد من قادة المجتمع البارزين بود عشانا، فضلوا عدم كشف هوياتهم لدواع أمنية، إنه خلال الفترة التي أعقبت سيطرة الدعم السريع على المدينة جرت سرقات للأغنام التي كانت تمثل المدخرات الأساسية للمواطنين. وبين قادة المجتمع أن السكان الريفيين يعتمدون تربية الأغنام والأبقار وسيلة لادخار ما يفيض عن حاجتهم، لذلك كانت توجد أغنام أو أبقار في أكثر البيوت أناقة بالمدينـة.
حالة مربي الماشية بود عشانا تشبه تماما ما جرى في القرى والمدن التي تحولت إلى مسارح عمليات حربية لطرفي الحرب، فقد سرقت الأغنام والأبقار في مناطق كثيرة كالخرطـوم وأم درمان وود مدني وسنجة وقرى جبل مويا بولاية سنار، مما سبب خسائر للمربين يصعب تعويضها بالجهـد الذاتي.
تصف سلوى عيسى، وهي طبيبة بيطرية بوزارة الثروة الحيوانية، خسران المربين الصغار قطعانهم بالفادح. وتقول إن إعادة تربية قطعان من جديد أمر مكلف للغاية وتضيف: «يستخدم المربـون الصغار طرقا شاقة في اختيار الحيوانات وتحسين نسلها، وعندما يفقدونها فإنهم ينفقـون جهـدأ ووقتا من أجل تربيتها مجـددا.
ووفقا لإفادات 13 راعيا جمعتها «أتر» فإن الفترة الممتدة من بداية الحرب وإلى اليوم كانت الأصعب في تاريخ تربية القطعان في السودان، وذلك بسبب تزايد جرائم قتل
الرعاة وعمليات النهب المسلحة التي تعرضوا لها في مناطق كردفان ودارفور والنيل الأبيـض والبطانة. ويقول الرعاة إنهم ضحية لسلاح الطرفين المتحاربين، باعتقاد خاطئ لدى كل طرف بأن الرعاة خلال تحركهم بين مناطق سيطرة الأطـراف المتحاربة ينقلون معلومات عسكرية لمصلحة العدو، وهو زعم ينفيه الرعاة باستمرار
وعلى سبيل المثال، فقد بلغ عدد القتلى من الرعاة في المنطقة بين أم روابة وتندلتي خلال الأشهر العشرة الماضية 20 راعيا.
وتحدثت «أثر» مع ثلاثة من أقارب بعض القتلى، قـال الأول إن شقيقه قتل على يد الجيش الذي اتهمه بأنه يعمل لمصلحة استخبارات الدعم السريع، وهي معلومة نفاها شقيق القتيل بشدة. وقال الثاني إن قوات الدعم السريع قد قتلت ابنه عندما سيطرت على ود عشانا بعد أن اتهمته بتقديم ذبيحة للجيش. وقال الثالث إن ابنه قد عثر عليه قتيلا في مناطق سيطرة الدعم السريع ولم يحدد من قتله.
ولأن الرعاة لا يتقيدون بالحدود، فإنهم يتنقلون دائما من منطقة إلى أخرى بحثا عن الماء والعشب لحيواناتهم، لكنهم مع استمرار الحرب حرموا من ممارسة التنقل، وهو ما انعكس سلبا على تربية القطعان. يقول حمدان، وهو من رعاة الإبل بكردفان، إنه كان يرعى فترة بداية فصل الخريف خلال شهري مايو ويونيو في ولاية جنوب كردفان، وببن يوليو ونوفمبر يرعى في ولاية النيل الأبيض، أما الفترة بين ديسمبر وأبريل فقد كان يقضيها يإبله في ولاية شمال كرفان؛ لكن اندلاع الحرب حرمه من التنقل، وظل لما يزيد عن العام يتحرك يإبله في مساحات ضيقة بشمال كردفان وهو ما تسبب في فقدانه عددا كبيرا من رؤوس الإبل التي نفقت مرضا وجوعا
ويقول عبد الكريم، من ريفي المجلد، إنهم كانوا يقطعون مسافات طويلة جنوبا حتى داخل حدود دولة جنوب السودان، لكنهم توقفوا عن تلك الرحلة حتى لا يروحـوا ضحية للتعدي من قبل المجموعات السكانية في جنوب السودان التي لها نزاعات قديمة مع الرعاة القادمين من تلك المناطق
وتضرر الرعاة في إقليم دارفـور، الذي تحول برمته إلى مسرح عمليات حربية، واستشرى العنف القبلي الذي أجبر الرعاة على عدم التنقل عبر المناطق الواسعة خوفا من القتل ونهب قطعان الماشـية، وفضلا عن فقدانهم أرواحهم في كثير من المناطق، وحرمانهم من التنقل من مكان إلى آخر، خسر الرعاة أسواق المواشي ومحاجر البيع، ولأول مرة يعجز الرعاة في مناطق الإنتاج الرئيسة عن الوصول إلى الأسواق في مناطق الاستهلاك في الخرطوم وفي عدد من الولايات الشمالية التي تعتمد كليا على جلب الأغنام والأبقار والإبل من دارفـور وكردفـان،
وقد نجمت عن فقدان أسواق البيع خسائر كبيرة للمربين والرعاة وتجار المواشي. ويقول يوسف صافي النور، وهو تاجر مواشي كان يعمل في تجارة الضأن بين التبـون والمجلد والضعين وينقلها إلى الخرطوم، إنه قد تعرض لخسائر فادحة بعـد توقفه عن التجارة لقرابة العامين.
وأخبر يوسف «أتر» بأن الرعاة يواجهون صعوبة كبيرة في تسويق حيواناتهم لتوقف الأسواق وقلة المشترين، لأن مناطق الاستهلاك السابقة يتعذر الوصول إليها في الوقت الراهن بسبب الحرب. وقد سيطرت قوات الدعم السريع على الطرق القومية بين الولايات، وكان آخرها طريق الدالي والمزموم وهو يربط بين وسط السودان وشرقه وتتعرض وسائل النقل العام لعمليات سطو من قبل الدعم السريع والعناصر المستنفرة معه واللصوص الذين سلحوا أنفسهم في ظل حالة الانفلات الأمني، لذلك توقفت عمليات نقل البهائم بين أسواق الولايات
ولحقت أضرار أخرى بالقطعان، أشدها وطأة تجفيف المراعـي، إذ تقلصت مساحات الرعي أمام عمليات قطع الأشجار لمصلحة تجارة الفحم. ويقول عدد من الرعاة إن الفحامة في غياب السلطة قضوا على كثير من الغابات التي كانت مخصصة للرعي بولايات كردفـان ودارفـور

كذلك تعاني القطعان من ندرة غير مسبوقة في مياه الشرب، وتأثرت مناطق رعيها بقلة أمطار فصل الخريف للعام الماضي، وبحالة التخريب المتعمد من قبل العصابات المسلحة التي طالت آبار المياه «الدوانكي»، فضلا عن انعدام الوقود الذي تعمل به، وهو ما جعل كثيرا من الرعاة يتخلصون من حيواناتهم لشح مياه السقاية. وترافق ذلك مع قلة الأعشاب التي تأثرت بقلة هطول الأمطار في العام الماضي ومنع الرعاة من التنقل من مكان إلى آخر
ويواجه الرعاة مشكلة أخرى تتمثل في ندرة الأعلاف والأدوية والعقاقير البيطرية. يقول حسام إبراهيـم، وهـو طبيب بيطري بمدينة تندلتي بولاية النيل الأبيض، إن استيراد العقاقير البيطرية توقف منذ بداية الحرب مما ضاعف أسعار الأدويـة المتوفـرة في السوق. ويخبر إبراهيم «أتر» بأن تاريـخ صلاحية المتوفر منها حاليا قد أوشك على النفاد، وهو ما ينعكس سلبا على صحة الحيوانات، وتوقع ظهور أمراض جديـدة وعودة أخرى اندثرت منذ سنوات، وهو ما يمثل كارثة على الرعاة حال حدوثه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى